عُمَان.. أصالةُ الموقف وعبقُ التاريخ

د. محمد الحوراني
أنْ تتحدّثَ عن عُمَان وأهلها يعني أن تتحدّثَ عن حاضرةٍ من حواضر العلم والأخلاق والمعرفة والانتماء، وهو انتماءٌ نابعٌ من التاريخ العريق لأبناء السلطنة الذين عاهَدُوا اللهَ على الانحياز إلى الحقِّ وأهلِه، ورفَضُوا المُشاركةَ في أيِّ فعلٍ من شأنِه أن يُسبِّبَ الاعتداءَ على أيٍّ من شعوبِ المنطقة والعالم، وهي استراتيجيّةٌ سارَ عليها العُمَانيُّونَ عَبْرَ تاريخهم الحافل بالبطولات وبالانحياز إلى الحقِّ وأهلِه، سواء داخلَ السلطنة أم خارجَها مِنْ خلالِ المناطقِ التي كانت تحتَ حُكمِ إمبراطوريّتهم مُتراميةِ الأطراف وتَسيُّدهم البحارَ في فترةٍ من فتراتِ تاريخهم الضَّاربِ في عُمقِ الحضارة الإنسانيّة والوجود البشريّ، وهو تاريخٌ يُدرِكُهُ المرءُ بقِراءَتِهِ وبالوُقوفِ على أهمِّ المحطّات التاريخيّة في حياة السلطنة، كما أنها محطّاتٌ أُسِّسَتْ على التسامُحِ والصِّدقِ والتهذيب، الذي يجعلُ المرءَ توّاقاً إلى مُعانقةِ قُلوبِ العُمَانيّين وفِكْرِهم القائمِ على احترامِ عقائدِ الآخر وقناعاتِهِ، وهي صِفاتٌ عابقةٌ بالمحبّةِ وبعدم الاعتداء على الآخرين والنَّيلِ منهم.

وإذا كانَ التاريخُ العُمَانيّ، بكُلِّ ما يَحمِلُهُ من عبقِ الماضي وأصالتِه، في منزلةِ البوصلة والمنارةِ التي تُضيءُ حياةَ العُمَانيّين، وتُوجِّهُ مسيرتَهُم، فإنَّ الكرمَ والنُّبلَ والثقافةَ العُمَانيّةَ تجعلُ المرءَ على مسافةِ وردةٍ من أبناءِ هذا البلد قبلَ زيارتِه، وحينَ يحطُّ المرءُ رِحالَهُ على أرض السلطنة، سُرعانَ ما تتحوّلُ المسافةُ بينَهُ وبينَ أهلها إلى قُبلةٍ تفوحُ منها رائحةُ العِطرِ والبخور واللبان العُمانيِّ الذي ما عرفَ إلّا الانتماءَ إلى الإنسانيّةِ وقِيَمِها النبيلةِ عَبْرَ تاريخِهِ الطويل، وهو ما لاحَظْناهُ بوُضوحٍ في أثناءِ زيارتِنا للسلطنة بصُحبةِ عددٍ من الزُّملاءِ رُؤساءِ الاتّحادات والروابط والأُسَر والأندية الثقافيّة العربيّة بدعوةٍ كريمةٍ من الجمعيّةِ العُمَانيّة للأُدَباء والكُتّاب، وعلى رأسِها الشاعرُ المُكرَّم سعيد الصقلاوي، للمُشاركةِ في تكريمِ كُتّابِ المستقبل المُتميّزينَ مِنْ طَلَبَةِ المدارسِ في أنحاء السلطنة.
ولأنَّ السلطنةَ كانتْ دائمةَ الاعتزاز بعلاقاتها العربيّة والعالميّة القائمة على احترام الثقافات والحضارات، وعلى رغبةٍ في تطويرها، كانتْ مُبادرة الجمعيةِ بتكريم الكُتّاب العرب الذين حضَرُوا الاحتفاليةَ التي أُقِيمَتْ تحتَ رعايةِ وزيرةِ التربية والتعليم في السلطنة، ولـمّـا كانت التجربةُ العُمَانيّةُ رائدةً في المجالِ الثقافيّ والعلميّ والبحثيّ، كانَ لابُدَّ مِنْ جولةٍ في أهمِّ مراكزِ البحوث والدراسات، وهو المركزُ العُمانيُّ للدراسات التابع لجامعةِ السُّلْطان قابوس، هذا المركز الذي يُدْهِشُكَ باتِّساعِهِ وتقنيّاتِهِ وما يَضُمُّهُ من قاعاتٍ وأقسام تُعنَـى بالعلم والمعرفة وتقديمِ كُلِّ ما هو مُفيدٌ إلى طُلّابِ العلم والباحثينَ عن المعرفة من السلطنة وغيرها من دُوَلِ العالم، كما أنَّ عنايةَ القائمين عليه بالتُّراثِ والتاريخ وعراقةِ الثقافة وتحصينها والحفاظِ عليها دَفَعَتْهُمْ إلى تأمينِ كُلِّ سُبُلِ الراحةِ للحُصولِ على المعلومةِ المُفيدةِ مجّاناً في أربعٍ وعشرينَ ساعةً، يَتنافَسُونَ خلالَها في خدمةِ طُلّابِ العلم والباحثينَ في العلوم والاختصاصات جميعها.
ولأنّ الحفاظَ على التاريخ وتُراثِ الأمّة سِمةٌ بارزةٌ من سِماتِ العُمانيّين، فقد خُصِّصَ قسمٌ، وجُـهِّـزَ بأحدَثِ التقنيّات للعناية بالمخطوطات وترميمها وتحقيقها، وحفظِ الدوريّات والكتُب القديمة والاهتمام بها، لتكونَ مُتاحةً بينَ يَدَيْ كُلِّ طالبِ علمٍ وراغبٍ في الاستزادةِ من المعارفِ والعلوم الإنسانيّة، كما أخبرَنا الدكتور أحمد الربعاني مديرُ مركزِ الدِّراساتِ في الجامعة، الذي غَمَرَنا بعِلْمِهِ ولُطْفِهِ وكَرَمِه.
في عُمان، وفي أثناء زيارتِكَ لمعالمِها التاريخيّةِ والثقافيّة والحضاريّة، تجدُ عراقةَ المُدنِ العربيّة الأصيلة، لا بل إن عمان تتقاطع في كثير من أوابدها التاريخية والآثارية والحضارية، مع غيرها من الدول العربية وخاصة، سورية ومصر والعراق وتونس وفلسطين وغيرها، وهي دول تضم كثيراً من المواقع التي يعود بعضها إلى عصور ماقبل التاريخ، وما تزال واقفة حتى اليوم تحكي قصص وتاريخ وعراقة وحضارة هذا الشعب وهذه الأمة. ولعل مما يحسب للشعب العماني وقيادته، هو الحرص الكبير على العناية بالمنجزات الحضارية للبلاد وأهلها، واهتمامهم بالموروث العلمي والثقافي الذي أبدعته الأجيال عبر التاريخ، وبذل كل جهد في سبيل الحفاظ عليه، من خلال التشجيع الكبير والإنفاق الدائم على مراكز الأبحاث والدراسات المعنية بهذا الشأن، والعمل على تنمية مهارات المتخصصين في هذه المجالات داخلياً وخارجياً، انطلاقاً من الإيمان الراسخ بأن حفظ التراث والاستفادة منه هو جزء لايتجزأ من الحفاظ على هوية البلد وثقافته.
وفي جولتك في السلطنة تجدُ نفسَكَ أمامَ كثيرٍ من المُشْتَرَكاتِ التاريخيّة بينَ أبناءِ غالبيّةِ الدُّوَلِ العربية، فحينَ تزورُ سُوقَ (مطرح) قُربَ مسقط، أو مُتحفَ عُمَان عَبْرَ الأزمان قُربَ نزوى، أو قلعتَها الرائعة، تحسبُ نفسَكَ في دمشقَ أو حلبَ والقاهرة وبغداد والقيروان والقدس، تماماً كما تجدُ نفسَكَ أمامَ تاريخٍ من البُطولاتِ والتَّحدِّي المُستمرِّ للمُحتلّ، جعلَ العُمانيّينَ، كالسُّوريّينَ والعراقيّينَ والمصريّينَ والمغاربة، يَفْخَرُونَ بالتَّصدِّي لكُلِّ غاصبٍ يُحاولُ النَّيلَ مِنْ بُلدانِهم أو الاقترابَ منها والتفكيرَ في احتلالها، وهو سلوكٌ وعقيدةٌ تَرَسَّـخَـا خلالَ قُرونٍ طويلةٍ بالتربيةِ والثقافةِ التي سَرَتْ في شرايينِ أبناءِ هذهِ الدُّوَلِ جميعها بفَضْلِ دَوْرِ التعليم والمدارس والمجالسِ التي كانتْ تزرعُ الفضيلةَ والأخلاقَ والإخلاصَ في الانتماء وبَذْلَ كلِّ غالٍ ونفيس في سبيلِ الدفاعِ عن الأرض والعِرْض، وهي مجالسُ لا تزالُ حاضرةً في السلطنة في مُحافظاتِها ومُدُنِها وقُراها كُلِّها، وهو ما لَمَسْناهُ في أثناءِ زيارتنا لبعضِ المجالس، ومنها (مجلس السبت) للسّيّد الجليل قحطان البوسعيدي في (بوشر) قُربَ مسقط.
والحقيقةُ أنَّ هذه المجالسَ كانَ لها الفضلُ في ترسيخِ ثقافةِ التسامُحِ والحِرْصِ على احترامِ ثقافةِ الآخر وديانتِهِ ومُعتقدِه أيّاً كان، وليسَ أدلّ على هذا مِنْ وُجودِ معبدٍ هندوسيّ قُربَ مسقط، يُمارِسُ فيهِ المُؤمِنُونَ عِباداتِهم بحُرّيّة مُطلَقة، بعيداً عن أيِّ إزعاجات، بل إنَّ هذا المعبدَ مفتوحٌ للجميع لزيارتِهِ والاطلاع على حقيقةِ التسامُحِ في الحياة العُمانيّة، وهو ما رأيناهُ بأمِّ العين في أثناءِ زيارةِ المعبد.
ما رأيناهُ في سلطنةِ عُمَان في أثناءِ زيارتنا تجسيدٌ عمليٌّ لثقافةِ المحبّةِ والتسامُح والتآخي بينَ أبناء الشعبِ العُمانيّ الشقيق، كما أنّهُ دليلٌ واضحٌ على إنسانيّة العُمَانيّين وانحيازهم إلى الخير والحقّ، وحينَ يزورُ المرءُ السلطنةَ يُدركُ تماماً أبعادَ الأثرِ الرائعِ ودلالاتِه (لو أنّكَ أهْلَ عُمَان أتيتَ ما سَبُّوكَ، ولا ضَرَبُوك)، بل إنّهُ يُدرِكُ تماماً أنّ أبناءَ هذا الشعبِ الأصيل لايَدِينُونَ إلّا بدينِ المحبّةِ والسلام، وهي البوصلةُ والمنارةُ التي تَحْكُمُ مسيرتَهُم عَبْرَ تاريخِهم الطَّويل، وهو ما ثمَّنه عالياً وتحدث عنه سعادة السفير السوري في سلطنة عمان الدكتور إدريس ميا خلال لقائه مع بعض الأكتاف العرب الذين حضروا الفعالية التكريمية في عمان،مؤكدا عمق العلاقات التاريخية بين سورية وسلطنة عمان، ومقدراً المواقف المشرِّفة للسلطنة تجاه سورية وغيرها من الأشقاء العرب.

آخر الأخبار
الفرملي: تنسيق مع منظمتي "بلا حدود" و "حماية المدنيين" لتقديم منحة لدعم التأمين الرقمي  أهالٍ من القنيطرة يحتفلون برفع العقوبات عن سوريا احتفالات  في حمص برفع العقوبات رئيس اتحاد غرف التجارة السورية : رفع العقوبات سيسهم في عودة الاقتصاديين إلى وطنهم وتدفق الاستثمارات رئيس غرفة صناعة دمشق لـ"الثورة": رفع العقوبات هو التحرير الثاني لسوريا خبير اقتصادي  لـ"الثورة": رفع العقوبات يفتح باب الاستثمار ويحسّن مستوى الدخل الاقتصاد السوري بعد 13 أيار ليس كما قبله...  خربوطلي لـ"الثورة": فرص الاستثمار باتت أكثر من واعدة ماذا بعد رفع العقوبات..؟ الدكتور عربش لـ"الثورة": فتح نوافذ إيجابية جداً على الاقتصاد نائب وزير الطوارئ لـ "الثورة":  حرائق الغابات التهمت 150 هكتاراً جامعة دمشق تناقش أهمية إدخال تقنيات  الذكاء الاصطناعي في عملية صنع القرار لتقديم أفضل مرور إنترنت في سوريا  الاتصالات تطلق مشروع "سيلك لينك" احتفالات كبيرة في طرطوس برفع العقوبات.. وإعادة التعافي للقطاعات  الشيباني: قرار ترامب برفع العقوبات نقطة تحول محورية للشعب السوري الأمم المتحدة ترحب بقرار ترامب رفع العقوبات على سوريا ترامب يعلن من الرياض رفع العقوبات عن سوريا "الاقتصاد والصناعة" تمنع تصدير الخردة الزراعة" و"أكساد" تطلقان دورة تدريبية لتشخيص الديدان الكبدية والوقاية منها إخماد حرائق غابات ريف اللاذقية انتهى.. والتبريد مستمر يوم حقلي لملاءمة أصناف القمح مع بيئة الشمال  الصحة: دعم الجهود الوطنية في التصدي لتفشي الكوليرا