(أرض الجحيم) عنوان أردته لرواية لي تحكي عن أهوال مايتسبب به انفجار ذري، لكنني أراه الآن واقعاً يتفجر بما هو أقوى من الذري يقع فوق أرض فلسطين ليحيلها إلى أرضٍ لجحيم حقيقي، وكأن أبواب جهنم قد فُتحت واسعاً.
الغصة في الحناجر لكن الشجاعة تهزمها، والأطفال الذين نجوا من مجازر (غزة) مازالوا يلهون، ويلعبون في تعبير عفوي عن طفولتهم، وهم يصمّون آذانهم عن أصوات القصف، والمدافع، وعن تلك الأغنية العنصرية المروعة التي تقطر دماً، وخراباً، والتي أهداها إليهم العدو في اليوم العالمي للطفولة.. وإذ أشاهد عبر الشاشات هؤلاء الأطفال الأبرياء في لهوهم يأتي إلى ذاكرتي (غول) الحكاية الذي سمعنا عنه في طفولتنا، وكيف أنه يأكل الصغار الذين لا يطيعون الأوامر، وخيالنا كان ينشط آنذاك في رسم صورة له على شكل حيوان مخيف له أنياب طويلة حادة تمزق الأجساد بينما نصغي باهتمام إلى مَنْ يروي قصته.. والحيرة تأخذنا عندما نشكك في حقيقة وجوده: هل حقاً هناك غيلان تعيش معنا في عالمنا هذا؟ وهل حقاً لها تلك الهيئة الحيوانية المرعبة؟.. ليظل السؤال مفتوحاً إلى أن كبرنا، وعرفنا أن الأمر لا يعدو كونه قصة تروى، وحكاية للتسلية، والموعظة.. لكن المفاجأة الكبرى لتي اكتشفناها هي أن (الغول) حقيقة، بل إنه موجود فعلاً، ويعيش فوق أرضنا، وهو لا يأكل الصغار فقط بل الكبار أيضاً بعد أن خدع الجميع عندما خلع عنه ثوبه الحيواني ليتخذ له شكلاً بشرياً يتماهى به.
إن كل مواثيق العالم لا تبيح استهداف المستشفيات، وأماكن الرعاية الصحية مهما بلغت الحروب من ضراوة، وانحراف عن مواثيقها إلا أن هذا حصل في (غزة) تلك المدينة الشهيدة التي كلما باغتها الموت تعود لتلملم أجنحتها المحترقة، وتصحو من جديد.. وما زال يحصل وكأن لا حرمة للكرامة الإنسانية، ولا قداسة للأرواح البشرية التي تفيض في أعدادها الكبيرة كل دقيقة.
(غزة) التي باتت معروفة جغرافياً باسم “قطاع غزة” ليست فقط منطقة ذات أهمية استراتيجية كونها تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بل إنها تحولت إلى ما يمكن وصفه بمعقل الصمود.. صمود أهلها الذين مازالوا يتمسكون بأرضهم بإرادة البقاء مهما تصاعدت الهجمة الدموية المسعورة عليهم، ومهما بلغت الظروف المحيطة بهم من صعوبة، ومأساوية.. فعلى مر العقود من الاحتلال شهدت العديد من الصراعات، والحروب، وآخرها ما يجري الآن ويخلف دماراً هائلاً، وخسائر بشرية فادحة.
إن ما تشهده المنطقة من معاناة يعيشها أهلها في ظل تدميرٍ مروعٍ، وغيابٍ مروعٍ أيضاً هو الآخر لحقوق الإنسان بشكل لا يمكن تصوره ما جعل شعوب الدول تتضامن مع أصحاب الأرض، والحق.. فمازال هناك متسع فوق هذا الكوكب للشرفاء الذين يرفضون أن يغمضوا أعينهم عما يُقترف من أهوال على الضفة الأخرى من العالم، وهم يرون على الفضائيات صور الفاجعة الكبرى التي تعجز الكلمات عن وصفها.
أرض للجحيم أرادها العدو أن تتفجر ليس فقط بفعل قنابله فائقة القوة بل أيضاً بالخوف، وهزيمة الانسحاب منها إلا أن أصحابها ظلوا يقفون في وجهه بأجسادهم العارية من أي سلاح إلا سلاح القوة، والتجذر في أرض الآباء، والأجداد.
أجل.. سيسجل التاريخ ما اقترفه أشرس عدو عرفته البشرية، وإذا نسي الأفراد الذي جرى فإن الضمائر لا تنسى.. وإذا ساد قانون الغاب في حرب غير عادلة يكون قد غاب عن المعتدي أن في هذه المعادلة لن يكون البقاء للأقوى، وإنما للأصل الذي هو الأصلح.
* * *