الثورة – ديب علي حسن:
واحد من أهم الشعراء العرب عبر التاريخ وأكثرهم إثارة وطرحاً للتساؤلات التي لا تبحث عن إجابات، بقدر ما تمضي نحو فكرة تولد فكرة.
ما فتئ يشعل نار اللغة والبحث في هشيم كل يباس منذ أن كانت قصائده الأولى.. في الشعر وفي النقد، كان وما زال كتابه المهم الثابت والمتحول علامة فارقة في الفكر النقدي، ناهيك عن كتاب مقدمة للشعر العربي، أو زمن الشعر، أو موسيقا الحوت الأزرق، وغيرها من الكتب النقدية..
إنه الشاعر الذي لا يكف عن إضرام النار لتتحول إلى جمر يولد أسئلة، أدونيس دخل عامه الرابع والتسعين وهو من مواليد قصابين في جبلة عام ١٩٣٠م، وكان أحمد اسكندر سليمان قد كتب في الأيقونات السورية قائلاً: آخر قصائد أدونيس (أرسلها لي في آخر اتصال بيننا يوم 25 كانون الأول 2023، طلبت منه السماح بنشرها فوافق أن تنشر يوم 3 كانون الثاني 2024، لأنها ستنشر أولاً باللغة الإسبانية يوم 2 / 1 / 2024 في ملحق لايبرينتو الثقافي في المكسيك بترجمة جعفر العلوني ويولاندا سولير اونيس).
مقتطفات من القصيدة؛
السّماء الآن هي نفسها الموت أنت الأرض
وهاهمْ قادةُ الإبادات وسلاطينُ العبوديّات يلتهمونكِ ذرّةً ذرةً، أنتِ الأرض – الظّلُماتُ تفترِسُ الضّوء.
وها هو طعامُكِ: خبزٌ يابسٌ، معجونٌ بأنفاس المُشرَّدين، وأشلاءِ القتلى.
أنتِ الأرض- قدماكِ حافيتان
ترابُكِ يرتعش وكلُّ ما عليكِ خِرَقٌ تتكوّمُ حُجُباً من الحديد على وجه المعنى.
إنّه الأفقُ يسير إلى الأسفلِ القَهقَرى.
إنّها الشمسُ تسألُ: ما هذا السديم الذي يدور حولي؟
غربٌ لبلابٌ يمتّصُّ الشرق خليّةً خليةً، الأجساد تحترق والفضاء يلبس اللّهب:
زيٌّ كونيٌّ!
من يحرثُ اللّهَب؟
من أين يجيءُ البِذارُ؟
متى ينتَهي الحَصاد؟
ألديكَ جوابٌ، أنتَ، أيُّها الرأس الكُرَةُ، الذي يَتَدَحرجُ بين دفّتَي كتابٍ، أنتَ، أيَّها الكتابُ الذي يتطايرُ حَرفاً حَرفاً في أنابيبَ كونيّة، ترشح ماءً أحمر؟
ألَدَيكِ جوابٌ، أنتِ، أيّتها اللُغات التي تُبارك الدّماءَ وتُوَزّعها “شراباً طَهوراً” في كؤوسٍ من الفحمِ واللؤلؤ؟ ألديكَ جوابٌ، أنتَ، أيّها الجسدُ – المائدة، وماذا تقول لضيوفِكَ الكَواكبِ والمجرّات، الحَرسِ – القنابل والصواريخ، والفرسانِ الذين يتكلَّمون لغات السَّماء – تلك التي تتحصّن بقذائف المعجزات؟ نحنُ الأشباحَ الآدمية التي تدبُّ على هذه الأرض بقدمين اثنتَيْن، لم نعُدْ نعرفُ من أين نأتي أو من أين أتَينا وإلى أين نمضي.
تعبت كلماتنا من المَهامِهِ ومن الجُسور التي تمُدّها بين الهاوية وأختها.
تعبّ الضوء من التنقّل بين الجسر وأخيه، وها هو الزمنُ فينا وحولنا- يخرج من نفسِهِ ويختارُ أن يكونَ رملاً.
الأمكنة
تتهيّأ للرّقص تحت راياتِ المُعْجِز حيث يتبادَلُ الملائكة والشّياطين.. وثمَّةَ أصواتٌ مشرّدةٌ تصرخ وتتساءل: هل صار علينا أن نقشر حروفَ الكلمات وأجسامَ الأشياء، لكي نفهم؟
وبأيّ ماءٍ سنغسلُ الورقَ والحبرَ، الكتابةَ والكُتّاب؟
وما اللقاء الذي يُهَيَّأ لنا في اتّجاه النهاية،
وفي اتجاه اللّانهاية؟ ومتى ستُطلُّ علينا السماء؟ وكيف؟ أمِن وراء صخرةٍ تتدحْرَجُ من فضاء العبث؟ بروقٌ تُحتَضرَ، ويكاد جسمي أن يلتهبَ عُضواً عُضواً في تنّور المعنى، الذي تَسهَر على جَمرهِ خُرافات التكوين.
الأيام تنتَفخُ بأحشاءِ الأبديّة، والشمس تُسرِّحُ جيوشها.
انصُبي لهم، أيّتُها الشمس، خياماً من جلود أطفالك الذين هبطوا لِتَوّهم في أرحامٍ بادت في تلك الصّحراء التي تعجُّ ببشرٍ مَرضى يتقلّبون في براميل سُمّرت على قفا التّاريخ.
تاريخٌ يُمليه كتابٌ وقرّاء يملكون الكلامَ الذي يختَبئ تحت ألسنةِ السماء.
وما هذه الألسنة؟ وما هذه السّماء؟
عفوكَ أيُّها الكون الذي يهزأُ بكَ معجونٌ طينيٌّ اسمُه آدم.
مَن هذا الذي يهرفُ بما لا يعرف؟
يرتَجِفُ ويتساءلُ: أأنا خِلدُ سفرٍ لا يعرف إلى أين ومتى، أم خِلدُ عودةٍ لا يعرف إلى أين ومتى؟
وقُل لي، أنتَ يا مَن يهذي:
هل عليَّ، إذاً، أن أتعلَّم كيف أقرأُ، بدءاً من هذه اللحظة
كتاب الكون- بدءاً من آخِر صفحاته؟
هُوذا نبضُ القلب في جسمِ الموت يكاد أن يتوقّف هل “مات الموتُ” كما يقول المُتنبّي؟
وها هي الحياة تفتَتِحُ أولى جلساتها لمحاكمة هذه الأرضِ الثانية التي اغتصبَت الأرضَ الأولى:
الحاضرُ مِطرقةُ القضاء، التّجربةُ شاهد آمين
ماضٍ سيّافٌ بعينٍ واحدة، والسماء الآن هي نفسها الموت.
يكادُ الماء أن ينهضَ على قَدمِيه، مُلوِّحاً، صارِخاً:
لا تقتُلوا باسمي، الرَّحِمَ والطّفولة، والرّضاع.
لم يعد كافِياً أن نتأمّلَ الفراشاتِ والطيورَ تلبسُ قمصانَ الأمكنةِ وتلتَحِف حنان الفضاء.
لم يَعُد كافياً أن نُصغي إلى الينابيع تبكي على قبور الشّجر والنّباتات.
الأشياء مرايا، كلُّ مرآة ارتجاجٌ- كلُّ مرآة محيطٌ من التباريح.
إنّه الهواء يضعُ يدَهُ على رأسِ الشمس:
متى يبدأ الغد الذي يُسمّى الإنسان؟
ولعلنا نستعيد بعضاً من قصيدته الشهيرة قبر من أجل نيويورك،، فكلاهما قراءة في دورة خراب هذا الكون ..قبرٌ من أجل نيويورك – أدونيس
حتى الآن، تُرسم الأرض إجَّاصةً
أعني ثدياً لكن، ليس بين الثدي والشاهدة إلا حِيلةٌ هندسية: نيويورك، حضارةٌ بأربع أرجل؛ كلّ جهةٍ قتلٌ وطريق إلى القتل،
وفي المسافاتِ أنين الغرقى.
نيويورك، امرأةٌ- تمثال امرأةٍ
في يدٍ ترفع خِرقةً يسميها الحريةَ ورقٌ نسمّيه التاريخ وفي يدٍ تخنق طفلةً اسمها الأرض
نيويورك، جسدٌ بلونِ الإِسفلت. حول خاصرتها زنّارٌ رطب، وجهها شبّاك مغلق…قلت: يفتحه وولت ويتمان –” أقول كلمة السر الأصلية”- لكن لم يسمعها غير إله لم يعد في مكانه.
السجناء، العبيد، البائسون، اللصوص، المرضى يتدفقون
من حنجرته، ولا فتحة، لا طريق. وقلت جسر بروكلين! لكنه الجسر الذي يصل بين ويتمان ووول ستريت، بين الورقة- العشب والورقة- الدولار…
نيويورك – هارلم، من الآتي في مقصلةِ حريرٍ، من الذاهب في قبرٍ بطولِ
الهدسون؟ انفجرْ يا طقس الدمع، تلاحمي يا أشياء التعب.
زرقةٌ، صفرةٌ، وردٌ، ياسمينٌ و الضوء يسنّ دبابيسه، وفي الوخز تولدُ الشمس. هل اشتعلتَ أيها الجرح المختبئ بين
الفخذ والفخذ؟ هل جاءك طائر الموت وسمعت آخر
الحشرجه؟ حبلٌ، والعنق يجدل الكآبة وفي الدوم سويداء الساعة.