الملحق الثقافي- أيمن المراد:
العربية وعاء حوى تراثنا، ثقافتنا، تاريخنا، عقيدتنا. لم نعرف ذلك كله إلا من خلالها، إنها أشبه في الأمة بالذاكرة للإنسان، إنها ذاكرة الأمة هل نتخلى عنها؟، وكلنا يعرف حال الإنسان أياً كان ماضيه إذا فقد ذاكرته.
وكانت العربية وما زالت تواجه الكثير من الهجوم والطعن والإهمال والمزاحمة، وليس ذلك بغريب من أعدائنا لأنهم أعداء، وليس ذلك ممن يدركون حقيقة اللغة، ومدى أثرها في تحصين الأمة، وشد أزرها، فقد أثبتت قدرتها منذ اتسعت لعلوم الحضارة يوم كان أهلها يصنعون الحضارة.
إن المنصفين يشهدون بقدرة لغتنا العربية لغة الضاد على العطاء والنماء والتطور، ولقد كانت اللغة العربية لغة الحضارة في القرون الوسطى، فاستوعبت كل ما فتحته الحضارات القديمة من فكر وثقافة وغيرهما، وهي اللغة التي لبت دعوة الإسلام الذي شكل منعطفاً في تاريخ العرب والبشرية، فاجتازت العربية امتحاناً كان يجب عليها اجتيازه، فقد استطاعت بقدرتها على التوليد والتطور، أن تفي بكل متطلبات التعبير اللغوي والفقهي والاصطلاحي الذي احتاج إليه الإسلام بكل سعته وعظمته وحضارته.
وهناك ظاهرة ثقافية باتت واضحة جدًا لنا جميعًا، وهي ظاهرة عزوف الشباب العربي عن استخدام لغة الضاد..والتي تظهر جلية من خلال توجه الشباب والشابات إلى استخدام لغة مستحدثة أطلقوا عليها لغة العربيزية أو الفرانكوأربيك كما أشير لها في ويكيبيديا. حيث يستخدم الشباب اللغة العربية المدموجة بمصطلحات أجنبية دخيلة، والكتابة باستخدام الأحرف اللاتينية…واستخدام بعض الأرقام عوضاً عن الأحرف التي ليس لها مقابل ..مثال ذلك استخدام الرقم 3 باللاتيني عوضاً عن العين..الـ 7 عوضاً عن الحاء، استخدام بعض الكلمات المختصرة بالإنجليزية مثال T B H تو بي آنست. و O M G أو ماي قد وهكذا…
وتعد هذه الظاهرة مقلقة جداً، لأن اللغة مرتبطة دوماً بالهوية والتراث والأصالة وحضارة البلدان، فالتخلي عن لغتنا سيؤدي حتماً إلى اندثار هذه اللغة على المدى البعيد…وبالرغم من أنها لغة القرآن، وأنها محفوظة من رب العالمين إلا أنها تظل محاطة بالخطر، وخاصة عند الأجيال التي ابتعدت عن القرآن والدين والتراث.
قد يعود العامل الأكبر إلى الغزو الثقافي الغربي لبلادنا..ولا يعني هذا أننا ضد الاندماج بثقافات الشعوب الأخرى لكن للأسف لا يأخذ شبابنا من الغرب سوى توافه الأمور التي تبعدهم عن دينهم وتراثهم وجذورهم. فنرى شبابنا بات همه تقليد الغرب في الأزياء التي لا تتماشى مع أخلاقياتنا ومبادئنا، وللأسف الشديد كان للبعد عن اللغة العربية، والجري وراء اللغات الغربية نصيبه في هذا المجال أيضاً.
ولا شك أن التطور التكنولوجي أو الثورة التكنولوجية كان لها دورها الفاعل كذلك، فاستخدام وسائل التواصل الاجتماعية كان لها دور كبير في انتشار هذه الظاهرة بين الشباب، وذلك بسبب الانفتاح على المجتمعات المتعددة التي جعلت من استخدام اللغة الإنجليزية متطلباً ضرورياً. وقد يكون الأمر صحيحاً هنا بشرط ألا يكون ذلك على حساب اللغة العربية والحد من استعمالها. أيضاً عدم توافر الأحرف العربية في معظم الأجهزة كالهاتف والكمبيوتر وغيرها اضطر الشباب إلى استخدام الأحرف اللاتينية عوضاً عن الأحرف العربية.
وقد تغيرت المفاهيم الأخلاقية والمبادئ وأسس التربية التي نشأت نتيجة الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تعيشها بلادنا بعد مرحلة ما يسمى «الربيع العربي» ..بحيث أصبحت المظاهر الاجتماعية هي الشاغل الأكبر لمعظم الأسر العربية، فبات الحديث باللغات الأجنبية كنوع من البرستيج والتقدم والرقي..فنرى مثلاً الأسرة تتباهى بأن أبناءها لا يتحدثون إلا الإنجليزية..وأنهم ملتحقون بمدارس أجنبية.
لا يتقن العديد من الشباب العرب اللغة العربية بسبب الطريقة التي تدرس بها. «أسلوب التدريس ومواد التعليم هي في الواقع شاقة، وتجعل أي شخص ينفر من اللغة» قال عباس التونسي أستاذ اللغة العربية في مدرسة جورجتاون للعلاقات الدولية في قطر» ويتم تعليم الطلاب مقاطع سخيفة جداً ونصوصاً ليس لها علاقة بحياتهم في هذا العصر الحديث، كما يطلب منهم «حفظ الشعر الذي لا يفهمونه».
وأحد الأسباب التي تجعل من تعليم اللغة العربية أمراً جافاً ارتباطها بالمصادر الدينية، فالقرآن باللغة الفصحى، والمسلمون في كل مكان يقرؤونه بلغته الأصلية، ويعتقد كثيرون اللغة نفسها مقدسة.
الأمر الثاني انحسار دور الأسرة الذي كان يعد المؤثر الأول..فجميع الأفراد تقريباً مشغولون بالتواصل عبر المواقع الإلكترونية بعيداً عن العلاقات الأسرية المباشرة..ما أدى إلى غياب دور المرشد.
سوق العمل الذي يفضل من يتقن اللغات الأجنبية أيضاً كان عاملاً مهماً في تفشي هذه الظاهرة..
وكما هو معلوم دوماً أن ملاحظة المشكلة أسهل بكثير من إيجاد الحلول لها، وخاصة في بلادنا العربية إذ إن الحلول دوماً تحتاج إلى عمل جماعي وتضافر جهود، وهذا ما تفتقر إليه مجتمعاتنا العربية. لكن دوماً لا نفقد الأمل.
أما الحلول التي يمكنها المساعدة على القضاء على هذه الظاهرة فتكمن فيما يلي:
يقع الدور الأول على عاتق الأسرة..إذ لا بد أن يعود دورها الفاعل ليكون المؤثر الأول كما كان سابقاً ..فاستمرار تنبيه النشء على أهمية اللغة العربية، وأن فقدانها يعني فقدان الهوية من الأمور المهمة التي يجب على الأسرة أن تتشبث بها.
دور المؤسسات التعليمية في التركيز على أهمية اللغة العربية، وإنشاء مناهج ذات أساس لغوي متين.
دور الجامعات في اعتماد اللغة العربية لغة أساسية في مناهجها، وهذا طبعاً من المطالب الصعبة مع أن بعض الجامعات استطاعت في بعض البلدان العربية تدريس معظم التخصصات باللغة العربية.
وجود لجان من خبراء اللغة العربية لايجاد مصطلحات بديلة تقابل المصطلحات الأجنبية المستحدثة، وهذا ليس بالأمر المستحيل كما أكده بعض من لهم باع طويل في اللغة العربية.
التشجيع على إقامة مسابقات للشباب عمادها اللغة العربية كمسابقات الشعر والأدب.
إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتذكير دوماً بأهمية اللغة العربية وتداعيات العزوف عنها.
ومن هنا يمكن التنبه إلى ضرورة العمل مع الجامعات الغربية والعربية التي تتبنى برامج تبادل الطلاب. ويرى كل من إي. جيولفو وإل سيناتورا أن: «توسع التعاون ما بين برامج تبادل الطلاب وما بين الجامعات الغربية والجامعات العربية في السنوات الماضية، أسفر عن وضع برامج دراسية وكتب تعتمد اللغة العربية الفصحى الحديثة بشكل أساسي. هذه المواد التعليمية والتي تتوقف على مبدأ إتقان اللغة العربية الفصحى، والتي يدّعون، أي العرب بحسب الكاتبين، أنها لغة موحدة في الدول العربية، والتي تلغي النظرة الثنائية للمتحدث العربي، والتي تشكل نواة الهوية العربية. مفهوم هذه النقطة يتمحور حول من الذي يقرر حقيقة اللغة العربية الآنية؟ القوى الغربية، التي لديها الحافز من أجل التعامل مع العالم العربي على أنه قوى موحدة بسيطة وكيان تسهل إدارته، أم أصحاب اللغة؟».
هناك محاولات لدى الغرب اليوم من أجل التركيز على تعلم ما يسمونه «العربية الفصحى الحديثة». لم يصل الغرب إلى ضرورة تعلم اللغة العربية بهذا المستوى، بحسب كل من إي. جيولفو وإل سيناتورا، إلا بعد أن فشلت محاولاته في اللجوء إلى فرض اللغات العربية العامية المحلية في تعليم اللغة خلال مرحلة الاستعمار، ومن خلال فشله لتعلم لهجة محلية واحدة تمكنه من فهم اللغة العربية بشكل عام، وفشل الغرب في قراءة أو فهم ما ينشر في الصحافة ويقدم عبر الرائي والمذياع. وهي لغة ليست معقدة في تركيبها، وتعتمد كأسلوب لغوي في جميع الدول العربية. وإذا كان الغرب يرى أن تعلم اللغة العربية الفصحى الحديثة، هو من أفضل الوسائل للتعامل مع الشعب العربي في كل مكان، وببساطة لأن اللغة الفصحى تضبط فهم اللهجات المحلية العربية وتقربها من بعضها بعضاً. ولكن السؤال الذي يؤرق دوماً: كيف وصل الإدراك ببعض العرب لتبني فكرة أن اللغة المحكية تكفي للحفاظ على الثقافة والعلوم والتقاليد والترويج لها.
اللغة تنسب الإنسان إلى قومه، والعربية اليوم هي نسبنا إلى قومنا بشراً وتاريخاً، وإلى أرضنا وطناً وحدوداً؛ فحدود الوطن العربي اليوم هي حدود الناطقين بالعربية الفصحى، وكل شيء ما بين المحيط والخليج مختلف إلا اللسان فهو وحده اليوم مظهر الوحدة.
العدد 1177 – 6 -2 -2024