الثورة – رشا سلوم:
يمثل ميخائيل نعيمة قمة الإبداع المهجري وذروة العطاء الإنساني الذي جمع الفكر والإبداع والحكمة واستطاع أن يقرأ الغرب قراءة واعية.
في تجربة ميخائيل نعيمة الحكمة التي لا يمكن أن تقرأ إبداعه دون أن تقف عنده.
وذروة ما كتبه هو كتاب مرداد..
في ذكرى رحيله نقبس من كتاب مرداد بعضاً من وهجه الإنساني يقول نعيمة:
عندما تصبح أنا ــ كُم و أنا ــ ي واحدة مثلما أنا ــ ي وأنا الله واحدة، عندئذٍ نستغني عن الكلام ونتفاهم بالصمت الصادق.
ولأن أنا ــ كُم ما تزال غير أنا ـــ ي فأنا مكره أن أشنّ عليكم حرباً وأقهركم بسلاحكم كيما أقودكم في النهاية إلى مقلعي وإلى بئري.
وعندها يصبح في مستطاعكم أن تُغيروا على العالم فتقهروه وتخضعوه نظير ما سأقهركم وأخضعكم. وعندها تصبحون أهلاً لأن تقودوا العالم إلى صمت الضمير الأسمى، إلى مقلع الكلمة وبئر روح الفهم القدوس.
إلى أن يقهركم مرداد لن تكونوا من المناعة حيث تتمكنون من أن تقهروا العالم. ولن يغسل العالم عنه عار الانكسار الدائم إلا من بعد أن تكسروه.
فشدّوا أحقاءكم للمعركة. اصقلوا تروسكم ودروعكم، واشحذوا سيوفكم ورماحكم. دعوا الصمت يقرع الطبل ويحمل العَلَم كذلك.
بنّون: أيّ صمت هذا الذي عليه أن يكون الطّبّالَ وحاملَ العلَم في وقت واحد؟
مرداد: إن الصمت الذي أودّ أن أدخلكم إليه هو تلك الفسحة غير المحدودة حيث يتحول اللاوجود إلى وجود، والوجود إلى لا وجود. هو ذلك الفراغ الرهيب حيث يولد كل صوت ثم يخفت. وكل شكل ثم يُسحق. وكل كلمة ثم تمحى. حيث لا شيء إلّاه.
وأنتم ما لم تجتازوا تلك الفسحة وذاك الفراغ في التأمل الصامت استحال عليكم أن تعرفوا حقيقة وجودكم. أو أن تعرفوا إلى أيّ حدّ ترتبط حقيقة وجودكم بحقيقة كل الوجود.
ذلك هو الصمت الذي أودكم أن تجوبوا أرجاءه كيما تنزعوا عنكم في النهاية جِلدكم القديم الضيّق وتنطلقوا في رحاب لا حدود فيها ولا قيود.
إلى هناك أريدكم أن تسوقوا همومكم ومخاوفكم، وشهواتكم ورغباتكم، وأحقادكم وأحسادكم كيما تبصروها تتلاشى الواحدة تلو الواحدة. وهكذا تستريح آذانكم من صراخها الذي لا يهدأ، وتأمن ضلوعكم وخز مهاميزها التي لا تُطاق.
هناك أريدكم أن تطرحوا بقسيّ هذا العالم وسهامه التي ترجون أن تقتنصوا بها الراحة والفرح لأنفسكم والتي لا ينالكم منها في الواقع غير الحزن والقلق.
هناك أريدكم أن تتسلّلوا من سجون أصداف الذات المحصورة وظلماتها إلى نور الذات الحقّة وفضائها المشرق الفسيح.
ذلك هو الصمت الذي أوصيكم به وهو غير الراحة الموقتة من الكلام للسان أعياه الكلام.
بصمت الأرض المثمر أوصيكم لا بصمت المجرم والمكّار.
بالصمت الصبور المؤمن أوصيكم ــ صمت الدجاجة تحتضن البيض، لا بقوقأة رفيقتها إذا تضع بيضة. فالأولى تقف صامتة على البيض واحداً وعشرين يوماً واثقة من أن اليد السحرية ستجترح عجيبة تحت صدرها الناعم وجناحيها الدافئين. بينا تنبري الثانية من قنّها كالمجنونة معلنة بأعلى صوتها للملأ أنها قد وضعت بيضة.
هذا ميخائيل نعيمة الذي يرى أن الإنسان أثمن ما في الوجود والوجود كله من أجل الإنسان فالإنسان الثروة التي ما بعدها ثروة.