منذ الزمن البعيد تتجلى أمامنا صورة مدهشة للحياة على سطح الأرض، إنها صورة متغيّرة ومتقلبة، يتلاقى فيها الأمل مع اليأس، والرهبة مع القلق واللامبالاة، وتتبدل عندها الموازين بين المكاسب والخسائر.
وفي هذا العصر الحديث، يظهر تحول جديد يهز أسس الحياة، وهو التغيّر المناخي الذي ليس مجرد ظاهرة علمية معقدة، بل واقع تعيشه الأرض، لأنه يترك أثره العميق في الطبيعة بأكملها، والبيئة معها.
فعندما نتحدث عن التغيّرالمناخي فإننا ندخل عالماً معقداً ومتشابكاً يؤثر بشدة في حياة البشر كما الكوكب بأسره، فتبعات التغيّر المناخي تتعدى مجرد البيئة لتمتد إلى الاقتصاد، والاجتماع والثقافة.
في قلب هذا التحول نجد أن مزاج العالم يتغير مع تغيّر المناخ ليزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء.. فالأغنياء يجدون أنفسهم يتمتعون بمزيدٍ من القوة والثراء إذ يستطيعون التكيّف مع التغيرات الطارئة، ويتقنون استغلال الفرص الناشئة عنها ولو أنها تأتي من وراء كارثة، فيستثمرون في مشاريع تجارية جديدة، تتعلق بمجالاتٍ مثل الطاقة المتجددة، وتقنيات الحفاظ على البيئة، ما يعزز بالتالي من مكاسبهم الاقتصادية، ويزيد من ثرواتهم المتنامية.. وعلى الطرف الآخر نجد أن هذا التأثيرالذي لا ينعكس على الأغنياء فقط، وهم يستفيدون منه أنه ينعكس أيضاً على الفقراء والمحرومين، ولكن بأثرٍ سلبي، إذ يجدون أنفسهم عالقين في قفص الفقر والتهميش، نتيجة التغيرات الجوهرية في بيئتنا كالارتفاع المستمر في درجات الحرارة، ونقص الموارد المائية، وارتفاع مستوى البحار ما يزيد من حدة الكوارث الطبيعية، وتدهور الأراضي الزراعية.
وهكذا تنتج هذه الكوارث تداعيات كبيرة على الاقتصادات العالمية، وحياة الناس ليصبح العالم مكاناً مختلفاً تماماً ليس فقط من حيث المناخ، بل أيضاً من حيث مزاجه ومكاسبه وخسائره.. بل عالم أكثر قسوة مع ارتفاع أسعار الغذاء والماء.
إن هذا التوزان المائل غير المتوازن حقيقةً يؤدي إلى تعاظم الفجوة بين الثروة والفقر.. فالأغنياء يستفيدون من تكنولوجيا المستقبل، والفرص الاقتصادية الناشئة، بينما يستمر الفقراء في النضال من أجل الحصول على الاحتياجات الأساسية للحياة الكريمة. في هذا السياق، يصبح التأثير الاقتصادي للتبدل المناخي واضحاً من حيث الفوائد والخسائر غير الموزعة بالتساوي بين الطبقات الاجتماعية. فبينما نجد أن الأغنياء يمتلكون الموارد والفرص اللازمة للتكيف مع التغيرات المناخية والتعامل معها، والقدرةعلى الاستثمار في تقنيات جديدة، ومبتكرة للحفاظ على ثرواتهم وزيادتها، وليصبحوا بالتالي أكثر ثراءً وقوةً وجشعاً وخوفاً من فقدان ثرواتهم.. نجد على الجانب الآخر أن الفقراء يواجهون تحديات كبيرة، إذ يعتمد العديد منهم على الزراعة والصيد كوسيلة للعيش، بينما التغيّر المناخي يلقي بأثره الكارثي على هذه القطاعات عندما تتسبب الفيضانات، كما الجفاف بتدهور المحاصيل، ونقص الموارد الطبيعية، مايؤدي إلى تفاقم الفقر، وحالة من عدم الاستقرار الاجتماعي.
إن أكثر ما يسترعي الاهتمام في حال عدم المساواة الاجتماعية هذه هو أن الفقراء يعيشون في مناطق تكون عرضة للكوارث الطبيعيةبشكل أكبر، مايعزز حالة الفقر لديهم، بينما نجد أن الأغنياء يعيشون في مناطق آمنة ومحمية، وبالتالي يتلقون تأثيراً أقل من التغيرات المناخية.
هذا الانقسام في المزاج، والفوارق الاقتصادية يؤثر بدوره في العالم بأسره. عندما يزيد التوتر والغضب والاستياء في المجتمعات الضعيفة المتضررة التي هي الأكثر عرضة للتأثر، والشعور بالظلم وتداعياته على حياتهم ومستقبل أبنائهم، وعدم المقدرة على تحقيق أي تقدم حضاري، ما قد يؤدي إلى زيادة التوتر العالمي والاضطرابات المدنية، وموجات من الهجرة، ويمكن أن يفجر صراعات سياسية واجتماعية ونزاعات جديدة، واندلاع الحروب.
إن تغيّر المناخ ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو ثورة تغيّر العالم من جميع النواحي، فمع ازدياد حدة هذه الظاهرة يصبح العالم مكاناً أكثر قسوة، وتزداد الفجوة بين أغنيائه وفقرائه.إلا أن مستقبلنا المشترك يعتمد على قدرتنا على التعامل مع التحديات لنعمل معاً كشركاء في الكوكب، وكمجتمع عالمي واحد. وعلينا أن ندرك أن التغير المناخي ليس قدراً لا مفر منه، بل إنه مسألة علمية بيئية، وقضيةإنسانية تتطلب تعاوناً عالمياً تتحد فيه كل الأطراف للتصدي لها، بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية في الفرص والثروة وبناء عالم أفضل وأكثر استدامة للجميع.
التالي