هفاف ميهوب
عندما تأمّل المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” في “صور المثقف”، كان أوّل ما فعله، فرز صورة المثقف الحقيقي، عن بقية الصور التي رآها رائجة، وتُستهلك في أسواقٍ احترافية.. قام بذلك لأنه رأى بأن هذا المثقف، قد مُنح ملكة فكرية فعّالة في رسالتها، ووجهة نظرها وطروحاتها الفكرية.. إنها رسالة هذا المثقف لجمهوره، وربّما تكون رسالة هذا الجمهور الذي فوّضه بكتابتها، لأنه يُدرك بأنه الأقدر والأصدق في طرحِ قضاياه واحتياجاته، وبجرأةٍ كانت السبب في قيام “سعيد” بفرزصورته، وإشارته إلى أن “من الصعب على الحكوماتِ أو الشركات استملاكه”.فعل ذلك، مدركاً أن مشكلة الولاء تحيط دوماً بالمثقف وتتحدّاه، وبأن جميع المثقفين- دون استثناء- ينتمون إلى جماعات قومية أو دينية أو عرقية ما، ليكون الانتماء الذي لايُفاوض عليه أبداً، هو الانتماء إلى الروابط المتعلقة بالعائلة والأرض والجنسية.
إذاً، شعور المثقف بأن شعبه مهدد بالانقراض، الاجتماعي أو السياسي أو الفكري، يفرض عليه بذل أقصى الجهود، لحماية شعبه والدفاع عنه، مثلما لمواجهة أعداء أمّته ووطنه، ولاسيما عندما يُستهدفا، أو يقع عليهما أي اعتداءٍ يهدّد أمنهما ووجودهما. لاشك أنه الشعورالذي دفع “سعيد” للإشارة إلى الأخطار التي تعيق عمل ورسالة هذا المثقف.. للإشارة أيضاً، إلى أن الخطرالأكبر الذي يهدّده ويعيق عمله:”الخطرالأكبرلا يكمن في الروح التجارية المروّعة للصحافة ودور النشر فقط، وإنما في مسلك سوقٍ استهلاكية احترافية، تعتبر الثقافة مجرّد وظيفة، على المثقف أن يؤديها مقابل مكاسب مادية”.بيد أنه الخطر الذي تفاقم اليوم، بل تطوّر في دوره وتأثيره، وإلى أن انحسر دورالمثقف الحقيقي، وباتت الثقافة تبحث عمن ينقذها من سوق الاستهلاك، ويعيد إليها قيمها السلوكية والوجدانية والمعرفية..للأسف، لاأحد ينقذها في ظلّ هيمنةٍ الأسواق التي يتصارع فيها تجّارالثقافة المهيمنين، الذين همّشوا دور المثقف الحقيقي، وفسحوا المجال لإظهارِ صورٍ مختلفة، من أنصاف وأرباعِ وأشباه وأتباعِ المثقفين.. لاأحد ينقذها في ظلّ تخديرالعقول واستلابها، وبرمجتها بالعولمة وشبكاتها العنكبوتية.. الشبكات التي غزت حتى هذه الأسواق، فجعلت الإنسان وثقافته وفكره ووعيه، بل وكلّ ما يخدمه ويرتقي به، محكومٌ بمصالحٍ وأهدافٍ وتطلعات، تزيد من استلابه، وتفاقم الهيمنة الاستعمارية العالمية..لا أحد ينقذها، فمن المسؤول؟.. أتبقى محكومة بسوق الاستهلاكِ وشبكات التواصل، أم تتحرّرمن الهيمنة وتتبع، صورة المثقف الحقيقي، وما تبقى له من أثرٍودور؟..
السابق
التالي