فؤاد مسعد
مما لا شك فيه أن انقلاباً كبيراً في المفاهيم أصاب الأعمال الدرامية ضمن إطارها العام، ففيما سبق كان يحمل العمل الدرامي على عاتقه «إلى جانب التسلية»، مهمة التنوير والتوعية حول الكثير من الأمور والظواهر الاجتماعية، مؤدياً بذلك دوره الفاعل والمؤثر، فعلى سبيل المثال كانت المسلسلات تدق ناقوس الخطر منبهة من فكرة «الثأر» في المجتمع مشددة على أهمية اللجوء إلى القانون والقضاء وتجاوز فكرة الانتقام، أما اليوم فغالبية مسلسلات الأكشن تقوم فكرتها الأساسية على تيمة الثأر والانتقام، والمصيبة الأكثر إيلاماً عندما تجد أقلاماً تشر عن هذه المفاهيم عن قصد أو من دونه، غير مدركة فداحة ما تروج له، فترى أن انتقام «البطل» وقتله كل من ظلمه يوماً هو حق مشروع له، وبغض النظر عن فكرة ترويج العنف وأحياناً «العنف الشديد»، فهناك مفاهيم أخطر بكثير يتم تسويقها وتلقفها على أنها هي الموقف الصحيح، ما يعكس التشويه الفكري الذي تمارسه بعض الأعمال ضاربة بعرض الحائط «ومن الجذور» كل المفاهيم والقيم التي تم السعي إلى تكريسها في وقت سابق.
أذكر تماماً أعمالاً كان همها إيصال فكرة عدم الجدوى من الثأر والانتقام والتأكيد على أهمية اللجوء إلى القانون ليأخذ مجراه، أو أن يكون الصلح والتسامح سيّد الأحكام، والأمثلة التي تبقى حاضرة في الذاكرة كثيرة، منها سهرة «الولادة الجديدة» إخراج غسان باخوس وتأليف الياس إبراهيم وإنتاج عام 1984، وبطولة الفنانين رشيد عساف وعبد الفتاح المزين، والتي تغّلب فيها الحس الوطني على حس الحقد والخلاف بين أفراد عائلتين، وفي مسلسل «الجرح القديم» إخراج سليم موسى وإنتاج عام 1971، بطولة منى واصف وإغراء وعبد الله عباسي، تُطرح قصة حب بين فتاة وشاب من عشيرتين متعاديتين فيهربان ويتزوجان ويُقتلان ليعود الثأر بين العشيرتين من جديد.
كثيرة هي الأعمال التي تناولت موضوعات كانت حارّة وهامة في مراحلة إنتاجها، كموضوع الشعوذة الذي عالجه مسلسل «المجنون طليقاً» إخراج: علاء الدين كوكش وتأليف: عبد العزيز هلال عام 1984، بطولة: هاني الروماني ويوسف حنا ورشيد عساف وملك سكر، ويحكي عن طبيب شاب يتم فرزه لقرية يسيطر عليها دجال ما يؤجج من الصراع بينهما، وفي موضوع زواج الأقارب نبّه مسلسل «الحريق» إخراج: شكيب غنام من نتائجه بما فيها خطر ولادة أطفال معوقين، وهناك العديد من الموضوعات الأخرى، منها ما يتعلق بمحو الأمية وتعليم المرأة وحضورها في المجتمع..، كلها قضايا كانت تثار على بساط البحث في الدراما، ولكن السؤال الجدلي: ما شكل الموضوعات التي تُثار اليوم على بساط البحث في الدراما؟..
لقد استطاعت الأعمال في وقت مضى أن تلبّي تطلعات المجتمع آنذاك وتسير إلى جانبه كتفاً بكتف بكثير من الاتزان والجرأة والحكمة، ليكون لها وقعها وتأثيرها في الرأي العام، ولكن في المقابل ما المفاهيم التي سعت العديد من الأعمال إلى تسويقها في الآونة الأخيرة؟ وأية حكمة فيها؟ وهل جاورت الواقع حقيقة أو لامست هموم الناس فعلاً؟ أم أنها استلت من معين الأحداث ما يغذي نار الأكشن والإثارة قافزة فوق الكثير من القيم؟.
هذه التساؤلات لا تنجر على أعمال قُدمت في الموسم الدرامي الأخير فقط، وإنما تشمل العديد من المسلسلات التي عُرضت في الأعوام العشرة الأخيرة، وبالتالي إن حضور الأعمال الدرامية الاجتماعية على الشاشة لا يعني أبداً أنها استطاعت جميعها ملامسة هموم ومشكلات العامّة، ولا يعني أنها قدمت كلها أحداثاً مُقنعة، فاليوم هناك الكثير من الموضوعات الهامة غائبة تماماً عن مضامين المسلسلات، وإن حضرت فتكون مجرد ومضة في خضم الأحداث، وللأسف باتت أعين أصحاب بعض الأعمال متجهة نحو تحقيق «التريند» قبل أي اعتبارات أخرى .
هي أسئلة برسم صنّاع الدراما، الذين يتحملون مسؤولية الإجابة عنها عبر أعمالهم، ولمن يقول أنه ليس من مهام الدراما تناول قضايا الناس والتعاطي مع الأمور الفكرية وإنما يكفيها تقديم التسلية فقط، أذكرّهم بما قاله الفنان الراحل صلاح السعدني عبر أحد لقاءاته «أؤمن أن الفنون في عالمنا العربي ليست للترفيه أو التسلية»، مؤكداً أن الفنون أخطر بكثير من الكلمة المكتوبة، لأن القرّاء قليلون، مشيراً إلى أن أفضل الكتب تطبع عدة آلاف من النسخ فقط، في حين يستطيع الفيلم والمسلسل الوصول إلى أعماق القرى والدروب العربية كلها.