الثورة – رنا بدري سلوم:
يهيأ إليكَ وأنتَ تقرأ العنوان “ثغرُ السّماء” أن تسرح في سماء المدى، بغيوم ناصعة البياض، هذا في بادئ الأمر، لكن بعد أن تفتح الصفحات الأولى لديوان الشاعر جابر أبو حسين، إصدار اتحاد الكتاب العرب، تجد النصوص الشعريّة غماماً يحمل غيث المعاني ليهطل علينا عبر بروق سبع وزّعهم من بداية الديوان إلى نهايته، لنخرج مبللين بخيبة ودمعة وربما بالرثاء والانتماء، رغم أن المطر وحتى الغيم في القصائد غالباً ما كان يرمز إلى الخصب والحياة وربما الأمل الذي يتكثّف حتى يصل إلى حتميّة هطوله، فاستطاع الشاعر أن يبهرنا بالعتبة النصيّة الأولى وهي العنوان.
وأنتَ تقرأ شِعر السماء، تشدّك هذه اللغة الآسرة التي أنسن فيها الشاعر كل ما حوله، الغيم والشجر والحور والحجر والجدول، ليهتف بحنجرة الإنسان مواجع الإنسان مرارة الفقد والغربة والشوق والمنعطفات الحياتيّة التي يحار بها الشعراء كيف يصوغونها “أين تأوي آخر الشعر” أما عن الشاعر أبو حسين فإنه يجيب بعد تساؤله “أجمع الأحجار في لغتي وبادرني التحية كأس ماء، أو غادر الشعراء وانصرفوا إلى أشغالهم أم علقت أعمالهم ورداً على باب السماء”.
الدّهشة والارتقاء حد التصوّف وجماليّات التعبير والمشهديّة الصوريّة، تمرُّ عليك بقصائد فتزور بها ومعها جبل الشيخ الشاهق وطبيعته الساحرة فكيف لا نحلّق بهذا الرقي والعلو السماويّ الأقرب للشمس بدهشة الفكر وإشراقة المعنى والمبنى.
“ما أقرب الشّمس” إذ تهدي وسامتها للصاعدات إلى أبراج فتنتهنّ، السّامقات كحور الشّعر في ماءٍ معناه الخفيّ، كعطر العابرات كما الأيام يكتبن تاريخ الملوك على رقم من الغيم أو من طينة الألم”.
يضعنا الشّاعر في أول برقه “أصيرُ غماماً”، بكلمة كانت، في قلب الدّلالة الجوهريّة للنص والذي ربما قد يعمّمه في بعض قصائده وكأنّ الزمن الجميل قد ولىّ دون رجعة حين “كانت كواكبها تفرّ من القواعد مثل أطفالٍ يشاكسُ غيمهم لوح الوصايا.. تمشي كصوفيّ على ماء المعاني والمرايا..” وفي نص مدى” يكتب:
كنت أرمي جناني
إلى سائحات الغيوم
فتشكرني أرضُ نصّي
إلى أن يصفّق فوق ترابي الجدا
كنت وكنت وكنت فكانت مدى”.
قلّما نجد قصيدة غير مبللة بدمع الألم، وبريق الشجن، وربما الانكسار ووحشة فراق ابنته التي تركت أرجوحتها معلّقة على أبوابِ الجنّة لتدخلها ملاكاً يحرس هذه السّماء التي تصدّرت الغلاف، فكتب في قصائده التفعيليّة والعموديّة التي استحوذتا المجموعة، ومنها قصيدة مطر ” وعلى شفاهكِ بارقٌ شطرَ الندى
وعلى لحاظك قاهرٌ ورحيم
قلبي على كأس اللقاء حشاشةٌ
وعلى غيابك ِساهمٌ ويتيم
فإذا اسمك العالي به ارتطمت رؤى
غيماتُ شعري والوضوح يغيمُ”.
في نصوص ديوان “ثغر السماء” وأبنيته الشعريّة، ورغم بساطة التعبير ووضوح الأداء الشعري بأخيلته ومجازاته وصوره، إلا أننا نقرأ ما ورائيات كامنة بين السّطور، ونشعر بأبعادٍ عميقة رائية تنبض بفكر وعقل الشّاعر بوجدانياتٍ ودلالات رمزيّة تجمع تناقضات الحياة ووجوهها المستترة، فيكتب:
“بطاقة عيد”
أنا والشعر
نحتاج طفلاً شقيّاً
يفككُ لعبتنا
ثم يلقي بها
في طريق الغيوم
لكي تنقذي قلبكِ الآثم
المتورّط في غيمنا ناولينا يده”.
لم يكن الشاعر بعيداً عن الأرض رغم توظيف مفرداته وتراكيبه بالسماء الكونيّة، بل توحّد مع قلوب نذرت أرواحها شموعاً ليبقى الوطن، في نص “فيض القلوب” يكتب:
ترى السّاحات فيضاً من قلوبٍ
وأبواب الرّدى غصّت زحاما
فيا أبطال يا شهداءُ قوموا
تروا إقدامكم بالعزم قاما
أديم الأرض إذ شربت دماكم
تقدّس سرّها أرضاً حراما”
ونص أرى ما أراني ينادي الغيم ويأمره ”
فيا غيم
خذني
إلى قلب سجادةٍ في العراق
ويا قلب خذني
إلى نجمةٍ في دمشق
بنار العذابات تُصلى”.
هكذا الشاعر أبو حسين يحملُ أفكاره كثمارٍ فصليّة تنتظر أوان نضوجها ليكتبها تارة زهرةً ملوّنةً على وجنتيّ الأرض وتارة دمعة تضرّع على وجه السماء وفي كلا الحالين يترك للقارئ أبواب السماء مفتوحة على المناجاة والصبر والصباح رغم ظلمة الأحزان المستبدّة يكتب ”
لم أره اليوم يكحّل أجفان الصرخة بالنبضِ
ولكن في القلب أراه
عما نرجسةٍ
وصدى صلصلةٍ
ونشيدٍ للأمطار
يدقُّ على نافذة الصبح
أراني أصرخ من أعلى الدمعة:
الله”.