الثورة – رفاه الدروبي:
ما زالت رواية “قناع بلون السماء” للكاتب باسم خندقجي مثار نقاش يمتدُّ لساعات طويلة باعتبارها من أسلوب السهل الممتنع. إنّه ابن نابلس في فلسطين، الطالب الجامعي يودِّع سنته الأخيرة في جامعة النجاح الوطنية كي يذهب إلى السجن ليحكم هناك بثلاثة مؤبدّات دون أيِّ ذنب يُذكر.
والرواية الفائزة بجائزة البوكر أوصلت الكثير للقارئ عبر الحكاية والحوار والمرايا المتقابلة وثنائيات متضادة، تناولتها الندوة الأدبية المُنظَّمة في فرع دمشق لاتحاد الكتَّاب العرب، وترأس جلستها الأديب أيمن الحسن، وشارك فيها أبو علي حسن، حسن حميد، ثائر عودة، أحمد علي هلال، وحضور رئيس الفرع الدكتور إبراهيم زعرور.
واقع متخيل
استهلَّ أبو علي حسن الندوة بالحديث عن الوجود والهوية عبر أسرار أرض يعشقها بما تخفيه من آثار وتاريخ، مطلقاً العنان لمشوار فلسطيني متخيَّل، لا ينفصل عن الواقع تجسيداً لما يعانيه عبر حوار بين “نور” الفلسطيني المأسور بالتاريخ والآثار، باحثاً عن المسكوت عنه للوصول إلى الحقيقة المطلقة المطمورة بهدف إثبات الوجود، وبين “مراد” الأسير الفلسطيني الباحث عن تفاصيل الكولونيالية الصهيونية ومواجهتها لإثبات الهوية والوجود، للكشف عن سرديتهم، وتأكيد السردية الفلسطينية في الزمان والمكان أُريد لها أن تنزاح من التاريخ والحاضر. إنَّها رواية متخّيلة في أحداث ومجريات وحوارات، لكنَّها جدل في الواقع الفلسطيني بمستوياته السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، التاريخية، الكفاحية، ورحلة بحث في فضاء معقَّد أدواتها تخيلية وفكرية على كلِّ المستويات عن حقيقة وطنية تاريخية أراد لها أن تختفي من التاريخ عبر مصادرة الأرض والتاريخ معاً.
خيال خصب
الناقد محمد الحسين رأى أنَّ الرواية هُربت عبر أربع وخمسين كبسولة إلى خارج السجن، وتجاوز الكاتب الفضاءات كونه يرزح تحت وطأة الجدران الأربعة، وكتبها خارج بيئة يعيش فيها منذ 20 عاماً، ما يعني أنَّه يمتلك خيالاً خصباً مكَّنه من تجاوز ظروف مكانه، وحاول أن يُمرِّر بعض المواقف السياسية لكن بشكل موارب عندما يتحدَّث عن عالم رام الله، والتي تعيش تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، بينما القدس ترزح تحت وطأة احتلال “إسرائيلي” دموي وفاش.
بينما تناولت الرواية حوارات شيقة، فهناك حوار خيالي بين نور الشهدي باحث الآثار الفلسطيني، وأور شابيرا الإسرائيلي، وجرى بينهما سجال خيالي ممتع، ثم تسير الأحداث وفق أسلوب سردي عادي يجعل القارئ يقرأ بلا توقُّف إذ لا يوجد عوائق في اللغة والطرح ومنذ البداية لا يرهق الكاتب قارئه برسم حالة من الغموض والتعالي على شخصياته الروائية المتحرِّرة من صندوق أدب السجون المعتاد، لأنَّها أول رواية لا تتحدَّث عن السجن بخلاف الكتابات الأخرى باعتبارها كتبت عن مقاومة السجَّان ونضالات الأسرى ضد إدارة السجون، كما تتحدَّث في عمقها عن الهوية الفلسطينية الأصلية؛ والهوية الطارئة المزيَّفة وسط حوارٍ قاسٍ.
ثنائية الارتباط بالمكان
كما رأى الدكتور ثائر عودة أنَّ الكاتب في روايته يُشكِّل ثنائية كونه لم يكن خارج المكان؛ وإنما في حالة الارتباط النفسي معه، والقطيعة الوجدانية بين الشخصيات وأماكن بعينها ربما تكون الأكثر وروداً في العمل، ويبدأ السياق السردي بإبراز المكان في حالة من الاتصال حين نرى الكاتب يؤكد في الصفحات الأولى من النص تماهياً مع كلِّ أرض فلسطين والارتباط الهوياتي معها، ونلحظ أنَّ عموم أرض فلسطين وتحديداً القدس تُمثِّل للروائي المكان المساوي له، كما يؤكِّد أنَّها مدينة، وما تحتويه من حارات قديمة ومقدَّسات تُمثِّل قمة الارتباط النفسي وخفقان القلب بالمحبَّة، وتصبح القدس بما ترمز له من مقاومة للمحتل ومواجهة هيمنة المكان المتصل عندها نور أو غيره من الشخصيات، حيث تعلن سماء أنَّ الأرض أرضها وإليها تنتمي لذلك عرَّفت نفسها بأنَّها البلاد ولم تلفظ الاسم كونه يمثل لها “هناك”، أي “إسرائيل”، بما يُحيل إليه المكان من شعور بالانفصال. وعلى الجانب المقابل تتبدَّى أمكنة الانفصال بشكل متواتر في النص فرام الله ومخيمات اللجوء والنقاط المكانية تُمثِّل قطيعة لدى بطل لا يشعر بالانتماء ولا الأمان في مخيم يعيش فيه، ويذكره بكلِّ ما مرَّ بالشعب الفلسطيني معاناةً وشتاتاً، ولذلك كانت القطيعة النفسية والانفصال عندما انسحب إلى رام الله.
أمَّا تجليات المكان المعادي فظهرت في ثلاثة اتجاهات الأول: الخاص بنور ونرى أنَّ المخيم مكان إقامته سواء أكان البيت أم الزقاق أم الحجرة تمثل أمكنة معادية بالنسبة له، متسائلاً عن مآل المخيم المرآة لذا يجري مقارنة بين المخيمات والمعسكرات النازية، بينما يتناول الاتجاه الثاني: السجن بوصفه مكاناً يقتل الروح الإنسانية ببطء، أما الاتجاه الثالث فيتجلَّى في نظرة المستوطنات اليهودية، ويُمثّل الاحتلال عدم الأمان والهيمنة وتحوّل المكان الأليف إلى معاد، فالقدس والبلدات القديمة المكان
الأليف للفلسطينيين، ما بيَّن ثنائية المكان في الرواية القائمة على تقاطعات متضادة لتُعبِّر في تقابلها عن قيم ومعالم متعارضة تكشف عن الأهداف المبتغاة من البناء السردي وتبرز الحالات الشعورية المتعددة، فقد تلبست شخصيات عند تفاعلها مع مكان أو آخر، وكان للحضور المكاني من خلال تضادات ثنائية دلالته في تعزيز الهوية الفردية والجمعية للفلسطينيين، كما كان له دوره في محو هويات أخرى تتصل بالحقوق المزعومة للاحتلال في الأرض أو إثبات الحق التاريخي.
كتابتها أسهل من قراءتها
ثم أوضح الدكتور حسن حميد أنَّ الظالمين يظنون أنَّ الرواية غايتها التجزئة، وتجميل الواقع المعاش المحاط به هموم ثقال عرَّشت فوقه أحلام أبت أن تصير واقعاً، لكنَّ كتابة الرواية أسهل من قراءتها، لأنَّ أشراكها وأفخاخها كثيرة، فالصورة العامة والقصد من الرؤية ليست واضحة، “فنور” ابن المخيم يدخل سرادب وهم بأنَّ الهوية الزرقاء قناعه المنجي له من الأسئلة الشيطانية، وتمكِّنه من افتكاك نفسه من عزلة كريهة، لكنَّه في نهاية المطاف يخلِّصها منه لصالح روحه ويستعيدها إليه مرة أخرى رغم قراءته وقناعته بقوة الاحتلال، إلا أنَّ حالة من قلق “أور” الإسرائيلي المقيم والأوروبي جاء ليكشف عن الآثار طلباً للأسانيد والعلاقات والرسوم. وتشكِّل الرواية حيرةً وأسئلةً وغموضاً وارتباكاً، وتذكِّرنا بارتباك الحياة الفلسطينية منذ 100 سنة حتى اليوم بسبب كثرة المطروح، فيجعلها أكثر هدوءاً وأقرب إلى العقلانية؛ لكنَّ الغطرسة والعنصرية ورائحة البارود تحول دون ذلك مثلما قلة الحيلة تحول دون تغيير الحال.
بناء هندسي
بدوره أحمد علي هلال بيَّن أنَّ الكاتب ذهب إلى البناء الفني، والرواية عبارة عن بناء هندسي لكن عنده لا يستقيم وحده دون أن يتبعه بخطاب المقولات والثنائية بين نور وأور شابيرا. وتتحرك كل الرواية من القناع، وهناك أقنعة أخرى، كما يستخدم الكاتب ما اصطلح عليه بالبطاقات الصوتية ليكون الاتجاه عبارة عن سرد وحوار خطاب آخر، لذا اعتبره استقطاباً للقارئ كي لا يملَّ لأنَّ الرواية تحمل ثقل القضية، كماً ونوعاً، بطريقة تجعل المتلقي يتساءل: ما طريقة كتابتها؟ والدليل المستوى الفني تتقاطر في مكوناته وجزئياته براعة الخندقجي عبر متخيل اللغة وكيفية مصالحة المتخيل والواقع في خطين متوازيين، وصاحب التأويل رواية محكومة بمستوى فني وتجريب وتجريد إلى ما لا نهاية، ومحكومة بمقارنة المسكوت عنه في الواقع الفلسطيني، المناضلين، المخيم، اللاجئين، المشردين، السماء الجليلة، فظلت وحدها من يقول: إنَّ فلسطين عربية تنتمي إلى الجليل بينما يبقى الكاتب تحت ظلال صراع في دينامية له.