بينما يزداد اتصالنا عبر الشاشات، يبرز تناقض صارخ بين سلوك مؤسسي مواقع التواصل الاجتماعي وسلوك مستخدميها، ففي الوقت الذي يُغرِق فيه ملايين الناس العاديين ساعات أيامهم في متاهات تصفح (الفيس بوك)، و(تويتر)، و(انستجرام)، وغيرها، وتبادل الرسائل، والصور، و(الفيديوهات)، يحرص مؤسسو هذه المواقع على تقييد استخدامهم الشخصي لها، وتحديد دقائق دخولهم إليها، وربما يلجؤون أحياناً إلى حظر أنفسهم عنها بشكلٍ مؤقتٍ، إن هذا التناقض يثير العديد من التساؤلات حول تأثير هذه المواقع على حياتنا، وما إذا كانت تشكل خطراً على صحتنا العقلية، والنفسية، وهل مثل هذا التصرف هو نابع من الوعي العميق لهؤلاء بمخاطر الإدمان الرقمي؟ أم أنها مجرد استراتيجيةٍ تسويقيةٍ لجعل منتجاتهم تبدو أكثر تشويقاً للإقبال عليها؟ بل ما هي العوامل التي تدفعهم إلى هذا السلوك؟.
تناقضات رقمية تجعلنا نعود لنتساءل: كيف يقضي مؤسسو مواقع التواصل الاجتماعي أوقاتهم إذا كان مؤسس موقع (تويتر) (سابقاً) لا يملك حاسوباً شخصياً، ومؤسس موقع (فيس بوك) لا يخصص لموقعه أكثر من بضع دقائق خلال يومه، بينما يغرق المستخدمون في متاهاتها؟ هل هو وعي أم تكتيك؟ أم أنهم يدركون تماماً المخاطر متعددة الاتجاهات، مما يدفعهم إلى تقييد استخداماتهم الشخصية لهذه المواقع؟.
أجل.. إنهم على درايةٍ تامةٍ بتأثير هذه المنصات على سلوك المستخدمين، وعلى صحة عقولهم، ونفسياتهم.. وربما هم يحاولون أن يكونوا قدوةً حسنةً من خلال تقليل استهلاكهم الشخصي، وتشجيع المستخدمين على اتباع خطاهم.. إلا إن بعض الخبراء يرون أن هذا السلوك قد يكون مجرد خطط تسويقية تجعل منتجاتهم تبدو لمستهلكيها أكثر جاذبية.
فهؤلاء من خلال إظهار أنفسهم كأفرادٍ معتدلين لا ينفقون أوقاتهم في مواقع التواصل، إنما يحاولون طمأنة المستخدمين بأن هذه المنصات ليست ضارةً بالضرورة، ويمكن استخدامها بشكلٍ مسؤول، ومستخدمها هو شريك، وليس ضحية لها مادامت هذه المواقع تلبي الحاجة إلى التواصل مع الآخرين، وتعزز الشعور بالانتماء إلى مجموعاتٍ اجتماعية، ومادامت مصدراً غنياً بالترفيه والتسلية، ومصدراً أيضاً لمتابعة الأخبار والأحداث، وأداة للتعلم، والبحث عن فرص العمل.. فهذه الوسائط هي بمثابة بواباتٍ سحرية تنقل الأفراد إلى عوالم جديدة، وتتيح لهم فرصة التعبير عن أنفسهم، واكتشاف ثقافاتٍ مختلفة.
إلا أن هذه الوسائط الحديثة بينما تحظى باهتمامٍ كبيرٍ في الدول النامية وتكتسب هالةً مختلفة عند وصولها إلى أسواقها، وكأنها بضاعة مستوردة رائجة تلقى إقبالاً، وإعجاباً كبيرين، فإن بريقها يبدأ بالتلاشي في عيون الغربيين لتصبح أقل سحراً، مما يثير التساؤل من جديد: حول أسباب هذا التفاوت في الاهتمام؟.. فهل هي لدى الدول النامية أكثر من مجرد وسائل للترفيه، أو للتواصل، وبمثابة نافذة على عالمٍ أوسع، وفرصة للارتقاء الاجتماعي، وأداة للتعبير عن الذات؟ أم أنها وسيلة للهروب من واقع مضطرب تتكاثر فيه الأزمات من حروب، ومشكلات اقتصادية؟! ففي الدولِ النامية يواجه الناس صعوباتٍ اقتصادية تجعلهم يقلصونَ من إنفاقهم على الترفيه، مما يجعلهم يعتمدون بشكل أكبر على الوسائط المجانية، أو الرخيصة، مثل التلفزيون الأرضي، أو (الإنترنت) المجاني.
إنه أمر له جذوره العميقة في التفاوت التنموي، وتباين مستويات الرخاء.. ففي ظل هذا التباين في المستويات التنموية، تكتسب الوسائط والتقنيات المتقدمة بعداً رمزياً مختلفاً في أذهان الأفراد في الدول النامية. وهذا ما يجعلها موضع إعجاب، وتقدير، وسلعةً ذات طلب عالٍ للتصدير إلى هذه الأسواق الواعدة، بينما تتوفر للناس في الغرب خيارات أكثر تنوعاً للترفيه، والتواصل، والتعبير عن الذات، والوصول إلى المعلومة، مما يقلل من حدة شغف الناس بها، ويوجه اهتمامهم نحو وسائل أخرى أكثر تفاعلية، وجِدة.. فالمجتمعات الأكثر تقدماً تندمج مع التقنية، ووسائطها الحديثة بشكل طبيعي وقد اعتادت عليها في حياتها اليومية بينما تمثل هذه الوسائط في الدول النامية نوعاً من الرفاهية، والحداثة المنشودة، التي يتطلع إليها الأفراد بشغفٍ، وإعجاب.
وهنا تبرز قيمة هذه المنتجات الثقافية كبضاعة مرغوبة للتصدير لدى الغرب، فالسكان في الدول البعيدة إذ يقبلون عليها باهتمام كبير، ويرحبون بها إنما يعتبرونها رمزاً للتقدم، والانفتاح على العالم وهذا ما يجعل منها سلعةً مربحة، تجذب اهتمام المصدّرين، والشركات متعددة الجنسيات.
بضاعة للتصدير تفوز بالتأثير.. وما على مستوردها سوى وقفة مع الذات لتجعل منه مستفيداً لا خاسراً، ومطلعاً عارفاً بخفايا الأمور لا مستهلكاً غافلاً عما يُرسم له.