من علائم دخولك النصف الثاني أو الثالث أو الأخير، سمه ما شئت، من العمر أنك كما يقال تقضيه في تذكر واسترجاع ما كنت عليه في الطفولة واليفاعة.
وفي اليفاعة كنت تقضيها تحلم أو تفكر بما ستكون عليه في المستقبل..دون طول سيرة (ولت وعجن) كما يقولون ..ذات يوم في المرحلة الإبتدائية في الصف المشترك المختلط (بنات وصبيان) بدأ المعلم يسألنا كل منا عن حلمه..زميلتي الجميلة ..همست لي قبل أن يصل الدور: قل له سائق ( تراكتور).
وفعلاً لبيت الأمنية ..ابتسم المعلم وقال لي: ياله من طموح عظيم ..
طبعاً كنا نشعر بزهو حين نرى أبا سليم العلوني الرجل الطيب والنبيل رحمه الله وهو يقود جراره الجميل ويؤدي الخدمات لكل القرى المجاورة وبسمة محبة على شفتيه.
اليوم بعد أكثر من نصف قرن أتساءل: ماذا لو تحققت الأمنية وفعلاً أصبحت سائق ( تراكتور)..
ألم يكن أفضل من هذا الشعور باللاجدوى من شيء اسمه حبر وثقافة وتنوير واللهاث وراء رغيف خبز يتحكم بك وبها سائق(طرطيرة) وليس جراراً.
ألم يكن أفضل من أن تنتظر ساعات وساعات حتى تستطيع أن تتعلق بباب نقل داخلي وبأي لحظة أنت فرصة للهرس تحت دواليبه؟.
على الأقل تعود بجرارك وتنقل معك العشرات وقوفاً في (التريلا).
ألم يكن أفضل من أن تسمع حواراً بين أدعياء فكر وثقافة ونضال فكري كما يقولون يبدأ بأصغر كلمة (اخرس يا ..) وفي اجتماع مهم جداً فيه نخبة..
ألم يكن أفضل من أن تبقى على قارعة المستشفيات تعالج عينيك وظهرك مما فعلته بك سنوات العمل، وتخرج بشبه راتب يكفيك نصف يوم وعليك أن تبيع ما في مكتبتك أو بيتك؟.
ألم يكن ويكن..
ترى بعد الثالثة والستين هل أستطيع أن أحقق الأمنية…وقد وهنت العزيمة ولو تحققت ولن تكون من أين الجرار..؟
في كل الأحوال ؛ جرار حفيدي حيدر البلاستيكي يشعرني بالرضا..
لكن سرعان ما أتذكر قصيدة نزار قباني كلمات ..
( وأعود إلى طاولتي ولا شيء معي سوى الكلمات)،ومع ذلك فإنني مسكون بالأمل بنور لابد أنه في القلوب والعقول قد يطول حتى يعم لكنه لا مجال سيكون .
السابق