الملحق الثقافي- آمنة بدر الدين الحلبي – جدة:
حين دعتني للحضور كنتُ مشغولة بحياكة ثوب السماء لأطرز عليه أجمل الرسائل كي تصل على زند الريح تحمل قبلات تضوع بعطر الياسمين، وترسم آثار الحنين، لتطبع قبلة حب ومحبة على صدره.
لكن دَعْوَتها تمتلئ بالرغبة الجنونية لأكون معها في تلك الليلة على متن قارب في عرض البحر الأحمر تنخر مفاصله حكايات الوجع الذي رصف أجنحته في كل مكان خلال سنوات ونيّف من حرب قذرة لم تنتهِ بعد.
حاولتُ الاعتذار لكن تحت رغبتها الجامحة جعلتني أقبل الدعوة، جمعتُ ألواني وفرشاة رسمي لأكمل ما بدأته من زركشة سوريالية، وبضع حروف متوجة بعطر الياسمين، ومزينة بشفاه الدحنون.
قبل أن أعتلي القارب حمل إليَّ القمر بنوره الفارد على الكون أبخرته الجميلة عربون وفاء وحفاوة استقبال جميلة من بدر التمام، كانت باستقبالي حورية البحر بسطوة حضورها، وإطلالة ريحها.
يلفُّ قدها المياس شالٌ من حرير مرصوفٌ عليه كل الحروف الأبجدية، وعلى جيدها طوق من ياسمين غزلته أناملها برفق، وحزمتْ بعضًا من خصلات شعرها بـ أغصانه الخضراء.
كانت تصارعُ هدوء الليل بـ غنجها، كأنه ضجيج الحياة انبعثَ في روحها من جديد على أنغام سمفونية أورنينا كان لها وقع جميل في حياتها.
لكن ما لفت نظري كانت معلقة وشاحًا على طرف المركب يموج بكل حروف اسمه باللغة السريانية مدلاّة كأهداب عاشقٍ هائم في غواية العشق، كنت أهديتها إياه من عملي الفني.. وفستانها الذي كان يداعب أرض المركب فيصدر حنينا يعلن وصولها حتى ينتبه الحبيب آنذاك ليعلن عليها العشق، وما استوطن في عينيها لؤلؤ يتدحرج على وجنتيها.
أهي دموع الفرح بتلبية دعوتها!! أم وراء الأكمة أكمة؟؟؟
استقبلتني بابتسامة يحذوها الشوق إليه، وعينين مشتعلتيْن بأمل كبير في احتضانه، كسرتُ صمتها لأبعد عنها شبح الماضي المؤلم حين فقدتْ حبيبها في مثل هذا اليوم من أجل الواجب الوطني، بادرتها بالسلام أملاً بسلام لوطن الياسمين.
قالت: كأنك نسيت أو تناسيت حتى تأخر حضورك.
قلت: كنت مشغولة بكتابة رسائل إليه.
قالت: رسائل حب في زمن الحرب.
قلت: أجل يا حورية البحر هو ينتظر بفارغ الصبر حروف رسالتي، محملة بضوع عطري، منقوشٌ عليها قبلتي بشفاه وردية.
قالت: رسائلك ستبقى تتلاعب بها الريح، سجليها على قارعة الأحلام.
قلت: ألم تقرأي أدب الرسائل يفوح منها عبق الحب وحنينه.
صمتت بألم، شعرتُ حينها أن الذكرى هاجت من بين أضلعها فلزمتُ الصمت لأغيّر الحديث، لكنها جمعتْ ذاكرتها لتبوح.
قالت: في مثل هذا اليوم حضنَ الفرح بيديه حين ألبسني عقد اللؤلؤ مصاغٌ على كل حبة منه اسم «سورية» بأبجدية سريانية ليعيدني إلى تاريخ عريق ولد قبل آلاف السنين وشدني إلى صدره فامتزجت أنفاسنا وهو يهمس حافظي على هذا الإرث التاريخي، والهوية العربية والعمق القومي، لم أكن أفهم إلى ماذا يرمي حينها، لكن قذارة الحرب سرقته مني، وأنت تتكلمين عن رسائل حب في زمن الحرب تكتبيها على متن الريح بلا لقاء.
قلت: لكن هناك رسائل تركت إرثاً عظيمًا ومشاعر صادقة تمتلئ رهافة.
قالت: فلسفتك غريبة، تبحثين عن المجهول في خبايا الروح، كما فعلت أنا وخسرت، وأنت تسطرين تلك الرسائل في زمن محموم بالقنابل العنقودية، والفسفورية، وخالٍ من أبسط الحقوق الإنسانية في قلب سورية ولبنان وفلسطين.
قلت: كان يقوم بواجبه الوطني لأن حب سورية الياسمين ولبنان الأرز وفلسطين الأقصى أكبر من الجميع و»لكي يصبح الحب حبّ أحرار، لا حب عبيد، لأن الحر لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية» أليس هذا ما كتبه سعادة رحمه الله إلى حبيبته «أدفيك جريديني».
قالت: دعي سعادة ورأيه، لكن حبيبي قدم دماءه الطاهرة من أجل سورية، وتركني وحيدة وكل ما كان يقوله أعترف أنني أحبك ومجنون في حبكِ، ولكن!!!
قلت: كان حبيبك يجمع بين الحب والوفاء الوطني، مثل سعادة حين كتب لحبيبته «أنا الآن لا أستطيع الجزم بشيء سوى أني أحبك ولكن حبي لك ليس لنفسي وليس هو محور حياتي، بل الوطن هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبّي، كلنا يحب أن نكون للوطن، لأنه جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة، يجب أن نصبح أمة حرة.»
قالت: لا يجيد ماهية الحب ولا كنهه، أين غزله.
قلت: اسمعي يا صديقتي: حين رد على رسالة حبيبته كتب «وردتني رسالتك الأخيرة الحلوة الحاملة وريقات نرجسة متناثرة يضوع شذى عطرها، على صغرها وقلتها، قبّلت هذه الوريقات التي لامستْ أناملكِ وشفتيكِ وتنشّقتُ طيبها الرامز إلى طيبِ أنفاسكِ، وقد سمعت خفقانَ قلبكِ يجاوب ضربات قلبي بهدأة الليل في غرفتي».
لم تتمالك نفسها انخرطت في بكاء طويل وهي تردد أين هو الحب في ظل القتل والتدمير والحرق والخطف والفقر والتهجير والصقيع، واليوم في لبنان وفلسطين ويشلُّ حركتهم، ومنهم سلّم روحه لبارئها والنار تأكله، فهل تقوم سورية التي كانت بالأساس لا تملك نفطًا؟؟؟ وهل يعود لبنان يرفل بالحب ويزوره العالم، وينتهي الاحتلال من فلسطين، ونعود للأقصى.
قلت: لديك معلومات خاطئة عن سورية يا حورية البحر اليوم كتب صديقي نضال قادري يصف سورية: «سورية التي خاضت حربها ضد الاستعمار وتحررت منه.. سورية التي رفضت قروض البنك الدولي قبل 2010 وسددت كل ديونها الخارجية من عائدات النفط والسياحة والتجارة الخارجية ستعود أقوى».
ووضع صورة لجريدة الأسبوعية تعود لعام 1962م وتحديدًا في العدد 973 في الصفحة الأولى وبالخطوط العريضة العنوان التالي «إيجاد حل لفائض البنزين في سورية».
صمتت برهة وانتفضت بصوت متهدج فائض في البنزين وفائض بالحب ستقولين!!!
قالت: ما هو الحب في نظرك مازالت تملكين الأمل لتنقشي رسائل حب في زمن الحرب.
قلت: كتب سعادة لحبيبته «الحب هو غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى، فيكون الحب اتحاد نفوس وأرواح ولا يكون اعتناق لأجساد غير واصلة لتعانق النفوس المصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً».
قالت: أريد رأيك لا رأي سعادة يا صديقتي.
قلت: قبل أن أعطيك رأيي في الحب وكيف يحبني، أودُ لو أمتصُّ من هذا الزمن رعبه، وأعيد تكوين الرجال من جديد، أطحنهم لكي أجعلهم أنقياء كـ الثلج المندوف على سفوح الوطن، وأعجنهم بدموعي حتى أزرع فيهم الحب الذي غاب بين أردية العولمة، وانسحقت المشاعر بين دهاليز النت، واندحرت الأحاسيس على أعتابه.
قالت: هذا هو حبك؟؟؟
قلت: النبل يجيز كل الأفعال في سبيل الحب، إلا إهمال الواجب الوطني.
قالت: يطعمك واجباً وطنياً!! هل يبثك مشاعره ويدخل إلى عمق روحك؟
قلت: ناداني بالأمس القريب.
قال: أميرتي وهج شمسك تجتاحني رغم تأدية واجبه الوطني ليرد الجميل.
قلت: أنا امرأة من نار، مجوسية الأقدار.
قال: شعَّلتها أنتِ
قلت: تبحث عن اشتعال النار… من لونها الأحمر من تشكيلات رصفها رخام موار…مجوسية الأنوثة أنا.
قال: لا فرق بين عربي وأعجمي الا بالحب والتقوى.
قلت: ذكرتني بابن عربي حين قال: «أدين بدين الحب.. أنّى اتجهت ركائبه.. فالحب ديني وإيماني».
قال: اعتنقيه بلا تردد.
قلت: سأعلنه بقوة.
قال: تحصلين عليه بقوة.
قطعت علي الكلام وقالت حبيبك في واجب وطني ليرد الجميل، أين الحب؟
قلت: هو صديق حبيب وحبيب صديق.
قالت: والله لا أفهم ما تقولين، لكن أكملي رسائلك في زمن الحرب المجنونة التي حرقت البشر والحجر والشجر.
قلت: أعيد سر الحكايات التي غمرها النهر.. ما خطبك يا حورية البحر أكملي أكثر عن حبيبك لأريحك من هذا الحزن.
صمتت وتنهدت طويلاً وعادت بذاكرتها، قبل أن يفارق الحياة وهو على جبهات القتال.
قال: حروف أبجديتي قدت منكِ، وأكون بخير معكِ، معكِ أنتِ في يوم ما.
قالت: ستدعني أحلق أكثر لأنتشي أكثر مع السالكين وأهل الطريق.
قال: يحق لكِ، وسنلتقي على سجادة الحضرة المسائية.
قالت: اشرب نخب الحرف من نبيذيَ الأحمر.
قال: سأشرب من شفتيك خمر نبيذك وأسكر.
قالت: ستشعل أوار النار ويتطاير شررها فيحرقنا، كن عاقلاً وتعال لنحتفل بمهرجان عشقنا.
قال: أنت عبقرية وتطلبين أن أطلق العنان لعقلي.
قالت: حلق ودع الأرواح تحتضر للقاء محموم بالقبل.
قال: تحتضر جسدًا وخيالاً.
قالت: خيالك يرمح في عقلي.
قال: دمكِ يجري في شراييني.
قالت: يدلني على طريق منير.
قال: أحب نضجك روحًا وجسدًا.
قالت: أشعل منه سراجًا وهاجًا وابقه روحًا.
قال: وردًا وياسمين، وعنبًا وخمرًا.
قلت: من يختار دروب الياسمين كي تعانق الأرواح أرواحها.
صمتت بعدها ودمع العين يسبقها ونحيب عاشقة فقدت حبيبها أثناء تأدية الواجب وأنا أستمع إليها كما العادة…هدأت
قالت: تيقنت تمامًا الآن أن تلك الرسائل التي كتبها سعادة بالإضافة إلى طابعها الشخصي لماذا تحفل بالمشاعر الوطنية التي امتـلأت بها نفـس سـعادة في تلـك الفترة من شبابه، ورسائلك في الحب علمتني لغة التوحد مع الأرواح عودي لكتابة رسائل الحب في زمن الحرب.
العدد 1211 – 29 – 10 -2024