الملحق الثقافي- كمال الحصان:
الإيديولوجيا، مصطلح حديث، لم يظهر إلا في زمن متأخر، على يد الفيلسوف الفرنسي دسيتات تريسي 1755-1836م) في كتابه عناصر الإيديولوجيا)، وقد أراد بهذا المصطلح، علم الأفكار والنظريات التي يحملها الناس في مجتمع ما، والتي تبنى على أساسها الخطط والمبادئ التي تؤسس لمستقبل أفضل لهذا المجتمع، وقد تطور هذا المصطلح مع الزمن، حتى أصبح يعني النظام الفكري والفلسفي والثقافي الشامل، الذي يعبر عن مواقف وآراء مجموعة من البشر في مجتمع ما.
وعندما تصبح هذه الإيديولوجيا أساساً لحكم المجتمع، نقول أن هذه الدولة هي دولة إيديولوجية.
الإيديولوجيا إذن هي منظومة من الأفكار والقيم الاجتماعية السياسية والاقتصادية والفلسفية والثقافية التي تحكم مجتمعاً ما أو نظاماً سياسياً ما، عبر محددات نظرية مسبقة، تستهدف تحقيق مصلحة هذا الكيان أو المجتمع، وبتعبير أوضح، أن الأنظمة الإيديولوجية، هي الأنظمة التي تقوم على عقيدة فكرية ثابتة، يبنى عليها النظام السياسي برمته والثبات» هنا، هو ما يأخذه الآخرون على هذا الأنظمة، من أنها جامدة، وصعبة التكيف مع التحولات السياسية المستمرة والمتغيرة بشكل عام، وخصوصاً في هذا العصر، الذي تتغير فيه السياسات والمواقف بسرعة كبيرة، وأحياناً توصف هذه الأنظمة بأنها غير براغمالية، في زمن أصبحت فيه علاقات المصالح والمصالح وحدها، هي ما يحكم علاقات الدول والأنظمة.
هناك كيانات سياسية لا تقوم على أساس إيديولوجي واضح، وهنا يبرز سؤال: ما لم يكن الأساس الإيديولوجي هو ما تقوم عليه الدول والكيانات السياسية، فعلام تقوم إذن؟ ألم يكن ظهور الكيانات السياسية مع أول نشوء للحضارة الإنسانية، هو الذي أنهى عصر مجمعات البشرية البدائية والقبلية الهلامية والعشوائية حقاً..؟ والتي عترت عنها كيانات قامت على أنقاضها وعلى أسس اجتماعية أو جغرافية أو عرقية متميزة عن جوارها، تميزاً غير واضح المعالم فيما يمكن أن الجيو- إيديولوجيا)، والتي كان لتداخلها التأثير الكبير، على التفاعل والحوار الحضاري بين الأمم والشعوب فيما بعد، كما ساهم في تعميق الخير والمحبة بين البشر في عصور كانت فيها وسائل التواصل الإنساني شبه معدومة أو ضعيفة.
في إطار ما تقدم، نقول إن القومية العربية أو العروبة- وهما جوهر واحد-خلافاً لما يرى البعض- كمقيدة معبرة عن وجود الأمة بكل مكوناتها الأزلية نشأت مع ظهور الإنسان العربي الأول على وجه هذه الأرض، أي أنها ليست من اختراع فرد أو مجموعة من البشر، ولم يكتشفها أو يعيد اكتشافها أحد من المفكرين أو الفلاسفة أو المصلحين، بمعنى أنها ليست فكراً وضعياً، أو عقيدة وضعية، من وضع البشر، بل هي عقيدة فطرية تعبر عن وجود الإنسان العربي، الذي عاش على الأرض العربية، أو تطلع إلى العيش عليها، وانتمى إليها منذ فجر التاريخ المعروف حتى اليوم.
إن الإنسان العربي لم يعتنق العروبة اعتناقاً، لأن العروبة وجدت معه، ووجد نفسه هو في حضنها، بل لعلها هي التي اعتنقته إذا جاز التعبير – أما الأحزاب والتيارات والحركات القومية العربية المعاصرة، فهي فقط استهدفت، وضع هذه العقيدة ضمن اطر سياسية وتنظيمية معينة ومحددة لحمايتها من التشوهات، وابتكار آليات تفعيلها كتعبير ثقافي عن الإنسان العربي، بانتمائه الإنساني الواسع والعريض والرحب لجميع المنتمين للعروبة والمؤمنين بها والمتواجدين فوق أرضها، كحقيقة واقعة منذ آلاف السنين (جعلناكم أمة واحدة)، إنه الإنسان الذي أسس وحمل العديد من الحضارات عبر التاريخ، ثم جاء ليحمل أخيراً وبجدارة أذهلت العالم وأضاءت طريقه – مهمة من أنبل المهام الإنسانية، وذلك بحمله ونشره الرسالات السماوية الإسلامية والمسيحية للعالم أجمع من السماء إلى الأرض. ولقد ظلت العروبة حية وفاعلة في كل الأزمان، ولم يغب تأثيرها يوماً، بالرغم من تعرض الفكر القومي العربي، إلى الكثير من النكسات ولعل السبب في هذه الحيوية، هو ذلك البعد الإنساني والحضاري العميق للعروبة والذي بدا في كثير من الأحيان، أنها تذوب، بينما الحقيقة أنها تترسخ، وأما من يقولون بأن الأنظمة القومية هي أنظمة إيديولوجية جامدة، لم تعد صالحة في عصر المصالح بين الدول.
والبراغماتية (الواقعية) السياسية بمعنى أن ميزان الفكر القومي الثابت لم يعد صالحاً لقياس المواقف السياسية المتحولة، وهذه نظرية ابتدعها المفكر الأمريكي (فرانسيس فوكوياما)، و(صمويل هنتاتون) إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وبشرا، بأننا نعيش في عصر نهاية التاريخ لإيديولوجيا، وهؤلاء وأمثالهم قد يكونون على حق بالنسبة للإيديولوجيات الوضعية، القائمة على أسس ونظريات، وضعها المفكرون والفلاسفة.
أما بالنسبة للعروبة (العقيدة القومية العربية) فإن هذا ليس صحيحاً ولا صالحاً البتة، لأن العقيدة القومية العربية، هي عقيدة وجود، وليست عقيدة تنظيم وجود فقط كالأيديولوجيات الوضيعة الأخرى.
أما الفكر الصهيوني المزيف والمشوه، الذي تحاول إسرائيل تأطيره قومية (الصهيونية)، في محاولة منها لجعلهم شعباً لا يشبه بقية الشعوب..؟! أو أمة تحاكي بقية الأمم، هذا الفكر المريض والقائم على الكذب والتزوير، لا يمكن أن يواجه إلا بالصلابة القومية العربية المستندة إلى مشروع قومي عربي متكامل يستعجل نهوض الأمة وصحوتها، وإلا كان بديل ذلك تفكك جبهاتنا أمام عدو مصمم على عدوانه التاريخي المستمر علينا بكل الوسائل والطرق والمسميات، فهل نعي هذا التحدي المصيري…؟ وهل نكون عند حسن ظن المستقبل بتاريخنا …؟
مهما تكن النظريات والمصطلحات، فسوف يبقى اللسان العربي صوت العروبة، الذي صدح في أرجاء صحرائنا الواسعة عبر آلاف السنين، يهز أعماق كل ذرة من كيان كل عربي، من المحيط إلى الخليج ويملأه بنفس المشاعر ونفس الإرادة والإيمان بوحدة المسار والمصير وتلك عقيدة العروبة، وجدت منذ الأزل وستبقى إلى الأبد، تلهم النصر، حتى في زمن الهزيمة، ولتقر أعين الغيورين على العروبة، التي كان التاريخ قبلها في ظلمة ومعها في حضارة سطعت على العالم بانفتاحها وإنسانيتها وخلودها. واستخلاصاً، إن سر الصمود الأسطوري لجبهة المقاومة والممانعة، من أجل تحقيق النصر على العدو الصهيوني ومن وراءه يكمن في أن هذه الجبهة تستمد قوتها من عمق وصلابة الأمة وانتصاراتها عبر التاريخ، ومن دمشق بصحوة التاريخ، يستأنف الفتح «الصلاحي» مسيرته.
العدد 1211 – 29 – 10 -2024