كغيرها من سائر الدول الساعية لخطب ود سوريا، بعد إسقاط النظام المخلوع، جاءت زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى دمشق، ومن المفترض أن يكون هدف الزيارة التي جاءت تحت عنوان (تقديم الدعم لسوريا الجديدة)، هو إبداء الرغبة الحقيقية في التعاون مع القيادة الجديدة لضمان الاستقرار ودفع عجلة النمو الاقتصادي، وهذا سيكون موضع ترحيب كبير، لاسيما وأنه سيفضي في النهاية إلى إيجاد أرضية ملائمة تمكن الدولتين السورية والألمانية من نسج علاقات تعاون متين مبني على أسس صحيحة، تخدم مصلحة الشعبين في كلا البلدين.
لكن عندما تتجاوز الزيارة حدود الرغبة في المساعدة وتقديم العون، إلى عتبة إملاء الشروط، فهذا بحث آخر، لا يمكن لأي دولة مستقلة وذات سيادة أن تقبل فيه، لاسيما وأن الوزيرة الألمانية جاءت على متن طائرة عسكرية، ومرتدية سترة واقية للرصاص، وهذا مؤشر على أنها مسكونة بعقلية مازالت تعتبر نفسها أنها وصية على الشعوب الأخرى، وهي عقلية عفى عنها الزمن، هذا أولاً، وثانياً هي بذلك تحاول إعطاء صورة خاطئة ومضللة للعالم، بأن سوريا الجديدة، غير آمنة بالمطلق، وقيادتها الجديدة، غير قادرة على تأمين زيارات المسؤولين الأجانب، وهذا الأمر مجاف للحقيقة، حيث يشهد العالم يومياً على شاشات التلفزة، الحراك المتسارع لزيارات الوفود العربية والأجنبية التي تستقبلها دمشق، بكل ترحيب وأمان واطمئنان.
الوزيرة الألمانية التي جاءت إلى سوريا برفقة نظيرها الفرنسي جان- نويل بارو، تحدثت بلسان أوروبي وقالت إن زيارتها إشارة من الاتحاد الأوروبي على إمكانية بداية علاقة سياسية جديدة بين سوريا والاتحاد من جهة، وبين سوريا وألمانيا من جهة ثانية، وقالت بعد اجتماعها مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع: “إن أوروبا لن تقدم أموالاً للهياكل الإسلامية الجديدة” وفق تعبيرها، وهذا القول يتنافى بالمطلق مع شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتغنى بها الدول الغربية، ومنها ألمانيا، وهذا أيضاً، تصور مسبق وخاطئ تجاه النظرة الأوروبية تجاه الإسلام وعقيدته السمحة، وقفز فوق كل المعايير التي تحكم علاقات الدول، بعضها مع بعض، وهنا يبدو أن الوزيرة الألمانية لم تقرأ جيداً، ما قاله القائد الشرع في مقابلته الأخيرة مع قناة العربية/الحدث، بأن السلطة الجديدة ستدير البلاد بعقلية الدولة، وأن الفصائل الثورية ومنها “هيئة تحرير الشام”، سيتم حلها خلال مؤتمر الحوار الوطني الذي إلى دعا إلى عقده خلال الأيام القليلة القادمة، وبأن هذا المؤتمر سيكون جامعاً لكل مكونات المجتمع السوري، وسيشكل لجاناً متخصصة وسيشهد تصويتاً أيضاً، بما يمهد لولادة سوريا الجديدة.
وزيرة الخارجية الألمانية زعمت بأن بلادها تريد دعم سوريا في انتقال سلمي وشامل للسلطة وفي مصالحة المجتمع وفي إعادة الإعمار، ولكنها قالت في المقابل: “سنستمر في الحكم على هيئة تحرير الشام بناء على أفعالها على الرغم من شكوكنا”، وفق تعبيرها، وهنا يأتي سؤال مهم: طالما الوزيرة الألمانية تساورها الشكوك حول أفعال “الهيئة”، لماذا سارعت لزيارة سوريا على حين غرة، والتقت مع القيادة الجديدة؟ أليس من أجل بناء جسور تواصل مع هذه القيادة، أم إنها تريد نيابة عن بلادها فرض رؤيتها حول كيف يجب أن يكون شكل سوريا الجديدة؟ وكيف يتوجب أن تكون سياستها الداخلية والخارجية؟ وهنا يجب تذكيرها، بأن الشعب السوري وحده من يقرر مصيره ومستقبله.
من خلال التصريحات التي أدلت بها بيربوك خلال الزيارة، يتضح أن ألمانيا، وإلى جانب الاتحاد الأوروبي الذي تحدثت باسمه، يطمحان إلى لعب دور كبير في إعادة رسم المشهد السوري ما بعد إسقاط النظام البائد، ولكن وفق رؤيتهما، والتي لا تخلو عادة من محاولات إملاء الشروط على الطرف الآخر، من دون الأخذ بالحسبان المصلحة الوطنية العليا لسوريا، والتي تحددها الأولويات في هذه المرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها تعزيز الأمن والاستقرار، والنهوض بالواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي، الذي أوصله النظام البائد إلى الحضيض، وهذا يتطلب من المجتمع الدولي التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، وتقديم كل الدعم اللازم لإنجاح أهداف الثورة للشعب السوري، وهو الذي عانى من الظلم والاضطهاد والقتل والتدمير والتهجير طوال أكثر من ستين عاما.
اليد الممدودة التي جاءت بها الوزيرة الألمانية، لاشكك ستقابلها يد أخرى من قبل القيادة الجديدة، بحال كانت ألمانيا، تريد بالفعل نسج علاقات متوازنة مع سوريا، يسودها الاحترام المتبادل.