الثورة – سعاد زاهر:
في عالم تتصاعد فيه النزعات الطائفية والعنصرية، يبرز دور الأدب كحقل إبداعي قادر على تجسيد قيم التعددية والتعايش.. لقد قدّم عدد من الأدباء العرب والعالميين أعمالاً أدبية تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتؤسس لرؤية إنسانية شاملة تقبل التنوع وتحتفي به، هؤلاء الكتاب لم ينظروا للاختلاف كعيب أو تهديد، بل كفرصة لإثراء النسيج الاجتماعي والثقافي.
بين الرمل والنهر
ما بين رمال الصحراء الليبية ونهر النيل السوداني، ينبثق صوتان أدبيان استثنائيان، حملا في أعمالهما ملامح هذا السؤال الجوهري، هل نملك الشجاعة لأن نكون متعدّدين؟
بين إبراهيم الكوني، الفيلسوف القادم من تخوم الصحراء، والطيب صالح، الروائي العالق بين ضفتي الشرق والغرب، تتشكل رؤية أدبية للتعددية تتجاوز الخطابات السياسية والتنظيرات الأكاديمية، رؤية تنبع من عمق التجربة، ومن صراع الذات مع حدودها، ومن محاولة العثور على انسجام ممكن داخل الفوضى.
التعددية في أدبهما
تجربة داخلية تُكتب بالجراح والحنين، بالتأمل والتمزق، بالنفي والانتماء، الصحراء عند الكوني ليست فراغاً، بل نَفَس كونية تحتضن التنوّع، والنهر عند الطيب صالح ليس مجرى مائياً فحسب، بل مساحة للتيه والارتطام والعودة المترددة.
التعددية كنداء للأصل
في عوالم إبراهيم الكوني، لا يظهر الإنسان منفصلاً عن الأرض، ولا تُختزل الهوية في الاسم أو العِرق أو اللغة، بل نجد أنفسنا أمام كونٍ متكامل، تتجاور فيه الأرواح كما تتقاطع الرياح في الصحراء، بلا صراع، بلا إقصاء، عند الكوني، التعددية ليست شعاراً حضارياً حديثاً، بل مبدأ كوني قديم، منقوش في الرمل، وفي الروح، وفي أساطير الشعوب التي تعلّمت كيف تنجو بالاختلاف لا بالتشابه.
من هذا المنظور، يَكتب الكوني عن الآخر لا بوصفه تهديداً أو استثناءً، بل بوصفه قريناً روحياً، لا تكتمل الذات إلا بالاعتراف به، هذه الرؤية تُحرّر التعددية من قيد التسامح السطحي، وتُعيدها إلى جذورها الكونية العميقة، نحن مختلفون لأننا جزء من تعدد الخلق، لا رغماً عنه.
الواو والدمية والرباط المقدس..
تعددية الروح والأسطورة في رواياته، مثل الواو والدمية والرباط المقدس، نكتشف تعددية ليست إثنية فقط، بل ميتافيزيقية، رمزية، تتجاوز الجغرافيا والدين.
يقدّم الكوني شخصيات تعيش على هامش الحضارة، لكنها في قلب الأسئلة الكبرى.. عن المصير، المعنى، وتلك الشخصيات، وإن بدت بدوية أو صحراوية، تحمل في داخلها تنوّعاً روحياً هائلاً، يجعل من الرواية فضاءً للبحث لا للإجابة، للحوار لا للوعظ.
في الدمية، تتجلى التعددية عبر التقابل بين الإنسان والآلة، بين الحلم والواقع، في هذه النصوص، لا شيء يُقصى، بل كلّ شيء يُستدعى ليأخذ مكانه في دائرة المعنى.
التبر.. هُوية لا تُختزل
في روايته التبر، تُجسّد التعددية من خلال الصراع بين القيم التقليدية البدوية، والقيم المادية الحديثة، لكن الكوني لا يُدين أحد الجانبين، بل يُظهر هشاشة كل منهما عندما يُغلق على نفسه.
التبر هنا ليس الذهب فقط، بل رمز للذات التي تضيع حين تتنكر لأصلها، وللعالم الذي يختنق حين يُقصى جزء منه بدعوى النقاء أو الحقيقة، فبطل الرواية، وقد تاه بين الولاء للقبيلة والانجذاب للمدينة، يجد نفسه في مأزقٍ وجودي، لا يُحسم إلا بالانفتاح على الآخر، لا بنفيه.
الصحراء كفضاء تعددي مقدّس
في رواياته يُعيد الكوني بناء عالم أسطوري، لا مركزي، يتجاور فيه المقدّس والدنيوي، العربي والأمازيغي، من دون أن يُقصي أحدهما لحساب الآخر.
الصحراء هنا ليست الفراغ، بل المكان الوحيد الذي يمكن للتعدد أن يعيش فيه من دون صدام، لأن الصحراء، برمزيتها لدى الكوني، لا تعترف بالحدود القومية أو الدينية أو العرقية، بل هي مهد للتأمل، ومساحة للحوار الداخلي، وساحة تُختبر فيها تعددية الكائن وطاقاته.
وفي زمن عربي مريض بالاستقطاب، تأتي كتابة الكوني كأنها نداء قديم، يقول لنا: “ليست النجاة في أن تتشابهوا، بل في أن تعترفوا بأن الاختلاف هو وحده ما يجعلكم بشراً”.
التعددية كصراع وجودي وتصالُح إنساني
في كتابات الطيب صالح، فإن التعددية لا تأتي بوصفها خلاصاً، بل بوصفها مأزقاً، تراجيدياً، سؤالاً مفتوحاً يتردد في الروح ولا يجد مأوى.
شخصياته تعيش التمزق لا بين ديانات أو أعراق، بل بين مفاهيم متضاربة للذات: بين الريف والمدينة، الشرق والغرب، الهوية والانفتاح، بين ما يُراد لهم أن يكونوا، وما يشعرون أنهم عليه.
عند الطيب صالح، التعدد ليس انسجاماً، بل صراع وجودي، ومع ذلك، فإنه لا يرفضه، بل يُقدّمه كضرورة إنسانية، كقدر علينا أن نعيشه بكل ما فيه من قلق وتوق ومصالحة غير مكتملة.
حين نقرأ الطيب صالح، لا ندخل فقط في عوالم السودان، بل في المنطقة الفاصلة بين عالمين، الشمال والجنوب، الشرق والغرب، الريف والمدن الاستعمارية، التراث والحداثة.
وبين هذه الضفّتين، تتحرك شخصياته معلّقة في الفراغ، تصطدم وتحنّ وتنتحر وتتمرد، لكنها في النهاية تقول شيئاً جوهرياً عن فكرة التعددية كشرط وجودي لا مهرب منه.
تنقذ ما تبقى منّا
الطيب صالح لم يكن منظراً للتعددية، لكنه كتبها بعمق إنساني يُجبر القارئ على التفكير، لا التسليم، لقد وُلد في قرية “القرير”، ودرس في الخرطوم، ثم هاجر إلى لندن، وعاش سنوات بين لغتين وثقافتين وهوّيتين، هذا التمزق الشخصي بين الشرق والغرب، بين اللغة الأم واللغة المُستعمرة، بين الموروث والمُستحدث، هو الذي غذّى رواياته بوعي معقّد بالتنوع والتعدّد.
فالتعددية لديه ليست توافقاً سهلاً، بل نزاع داخلي بين الانتماء والانفتاح، بين الحنين والتمرد، بين ما نعرفه عنا، وما يراه الآخر فينا، وهو نزاع يظهر جلياً في أعظم أعماله.
موسم الهجرة إلى الشمال
في روايته الأشهر موسم الهجرة إلى الشمال، التي تُعد من أبرز الأعمال الأدبية العربية على الإطلاق، يرسم الطيب صالح شخصية مصطفى سعيد، المثقف السوداني الذي يذهب إلى لندن، وهناك يعيش حياة غريبة مشبعة بالذكاء والتحدي، ثم يعود إلى قريته ليندثر في صمت مأساوي.
مصطفى ليس مجرد شخصية، بل تجسيد حيّ لصراع التعددية، إنه المثقف الشرقي الذي يتبنّى أدوات الغرب، لكنه يظل مرفوضاً، والشرقي الذي يعود إلى أرضه ليجد نفسه غريباً عنها، إنه مرآة مكسورة.. يرى في الغرب تطوراً وإغراء، لكنه يكتشف أن الغرب لا يحتمله إلا كغريب أو ككائن أسطوري.
التعدد في النمط الشعبي
في رواية عرس الزين، يظهر وجه آخر للطيب صالح، رواية تحتفي بالحياة اليومية، بالمجتمع الريفي، بتنوع البشر واختلافهم داخل الإطار الواحد.
الزين، الشخصية الغريبة والمرحة والمجنونة، هو المختلف في كل شيء: شكله، لغته، عقله، حتى ضحكته.
ومع ذلك، يصبح في النهاية محور الاحتفاء الشعبي، ويتحوّل عرسه إلى عرس للقرية بأكملها.
هنا يطرح الطيب صالح نموذجاً للتعايش الداخلي في المجتمعات الريفية: حيث يُمكن احتضان المختلف، لا رغم غرابته، بل بسببها.
القرية في هذه الرواية ليست مجتمعاً متجانساً، بل كائناً متعدد الطبقات، تتجاور فيه القداسة والفكاهة، الحماقة والحكمة، البساطة والتعقيد.
ليست حلاً جاهزاً
لا يمنحنا الطيب صالح أجوبة سهلة عن التعايش، ولا يدّعي أنه امتلك وصفة للتنوع، بل على العكس، يضعنا أمام مرآة، ونرى من خلالها هشاشتنا، عنصريتنا، شعورنا بالدونية، وتوقنا للحب والحقيقة والانتماء.
وهو بذلك يُعيد صياغة التعددية لا كمفهومٍ سياسي، بل كمعاناةٍ إنسانية تحتاج إلى شجاعة، وإنصات، واعتراف بالعجز أحياناً، في زمننا العربي الذي يتفسّخ بسبب ضيق الأفق، تأتي كتاباته لتقول: لا خلاص في الإقصاء، ولا هوية في العنف، بل في أن نواجه أسئلتنا المؤجّلة، ونتصالح مع شتاتنا الوجودي.
حارس التعددية
في لحظةٍ عربية تنزف من جراح الطائفية، والانقسام، والانغلاق، يُعيدنا الطيب صالح إلى السؤال الجوهري، هل نملك الشجاعة لأن نكون متعدّدين؟ أن نعيش في عالم لا يُشبهنا بالضرورة، لكن يمنحنا فرصة أن نكون؟ كتاباته لا تمنح إجابات، لكنها تفتح الأبواب نحو الذات والآخر معاً، وفي زمن الانهيارات، لعل ما نحتاجه حقاً، هو أن نستعيد صوته، لا كحنين إلى الماضي، بل كمرشدٍ نحو إنسانية أكثر اتساعاً من كل الخرائط الضيقة.