الثورة – سعاد زاهر:
في الزاوية الفقيرة من مدينة “باهيا” البرازيلية، وُلد جورج أمادوا كصوت خفيّ للمهمّشين، وشاعرٍ للتراب، وناقلٍ لأحلام الذين لا تلتفت إليهم النخب ولا تؤرّخهم الصحف، لم يكن كاتباً فحسب، بل كان ضميراً للشارع البرازيلي، وريشةً ملونة ترسم بالحب والجوع، بالإيمان والخرافة، بالفقر والجمال.
ولد جورج أمادوا عام 1912، وعاش حياة طويلة حتى وفاته في عام 2001، ومع ذلك، فإن أبطاله ما زالوا يتنفسون في ذاكرة الأدب، ويهمسون لنا في العالم العربي والعالمي، وكأنهم ينادون من شوارع “سلفادور” بأن الإنسان يبقى هو الإنسان، مهما تغيّر الزمان.
كتابة الفقراء.. الاحتفال بالحياة
في ظل برازيل تصدر البن والسكر للعالم، بينما تصدر الفقر والجهل إلى أبنائها، اختار أمادوا أن يكتب عنهم في روايته “غابرييلا، قرنفل وقرفة” “1958”، لا نقرأ حكاية الفقر وحدها، بل نحتفل بحياة امرأة تحررت من قيود المجتمع الذكوري، تجسد طاقة الحرية والتمرد على القيود.
وفي “أرض الميعاد”، الأرض ليست مجرد تراب، بل هي بطل حي يروي بدموعه، وصراخ الفلاحين الذين يكابدون الاستغلال، ليجعل من قصصهم نشيداً للكرامة.
أما في “كابتن الرمال”، فلا تجد أطفالاً مجرمين، بل تلاميذ شارع يحاولون النجاة من مجتمع لا يمنحهم إلا الظلال، ينحتون في ليل المدينة واقعهم الخاص، بوجوه تكاد تنطق بالحزن والبراءة معاً.
تُعيد الحياة للمهجورين
وفي روايته المبكرة “كابتن الرمال” “1937”، يرصد أمادو حكاية أطفال الشوارع في مدينة باهيا، الذين يعيشون بين السرقة والهرب واللعب من أجل البقاء، لكن المؤلف يتجنب تقديمهم كمجرمين، بل كضحايا لواقع اجتماعي ظالم، عبر سرد درامي محكم، يكشف عن القسوة التي يولدها الفقر، وفي الوقت نفسه عن البراءة والأمل التي تتسلل إلى قلوب هؤلاء الأطفال، الرواية تفتح نافذة على مجتمع يعاني من الإهمال والتهميش، وتطرح تساؤلات إنسانية عميقة حول العدالة، الحرية، والفرص في عالم لا يكف عن إنتاج الضحايا.
حكاية الجسد والروح
بين السرد الوثائقي والسحر الواقعي، نسج أمادوا أسلوباً فريداً يأسر القارئ، لم يكن مجرد راوٍ، بل كان عازفاً ماهراً على أوتار التناقضات، الفقر والثراء، الجسد والروح، الخطيئة والتسامح، لغة رواياته تشبه طعام الفقراء الذي يُطهى ببطء، متناقض لكنه غني بالنكهات.
كانت رواياته تتحدث عن مباغٍ وكنائس، عن الحب والجوع، عن الخرافة والواقع، لتجعل من باهيا عالماً ينبض بالحياة بكل أبعاده.
في عصر وسائل التواصل عادت السطحية لتغلب العمق، وبرزت قصص الأغنياء أكثر من حكايات الفقراء، لكن لو قرأنا “كابتن الرمال” اليوم، لرأينا ذات الأطفال، في مخيمات اللاجئين، على أطراف المدن الكبرى، في شوارع كابول وغزة ودمشق وريو دي جانيرو.
الفساد الذي فضحه أمادوا، لم ينتهِ، بل صار أكثر أناقة، الجشع الذي حاربه، صار أكثر مؤسساتية، لكن الكتابة تبقى مقاومة، وتبقى رواياته مرآة تنبّهنا لما غفلنا عنه في عجلة الحداثة الزائفة.
من يحمل الشعلة بعده؟

يعتبر بعض النقّاد الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز امتداداً أدبياً له، لا من حيث الشكل فقط، بل من حيث الانحياز للفقراء ونسج الواقع بالحلم.
كذلك يمكن القول: إن إدواردو غاليانو، الكاتب الأوروغوياني، سار على ذات الدرب، ولكن بلغة أكثر تقشفاً وميلاً للتأمل السياسي.
في الأدب العربي، يمكن مقارنته بنجيب محفوظ في أطواره الواقعية، وعبد الرحمن منيف في أطواره الاجتماعية- الاقتصادية، وحنّا مينه في محبة البحر والناس البسطاء.
كتب جورج أمادوا ذات يوم: “أكتب لأن العالم لا يُطاق، ولأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها أن أتنفس”.
وربما، من بين كل أصوات الأدب العالمي، تبقى كلماته بلسماً وصرخة في آنٍ، تذكرنا أن أجمل الشعر يولد من رحم الجوع، وأن الحرية تنمو في الأزقة التي لا يراها أحد.
هو لم يكتب فقط عن البرازيل، بل عن كل أمّة ظلمت أبناءها، واحتضنتهم بقلبٍ لا يعرف الانكسار، في زمن تتغلب فيه المظاهر على المضمون، تظل قصصه تهمس لنا، تعلّمنا أن الكرامة لا تموت مع الجوع، بل تولد معه من جديد.