الثورة – ناديا سعود:
لم تعد المياه في سوريا مجرد قضية بيئية أو مورد طبيعي تتأثر به الزراعة فحسب، بل أصبحت اليوم محوراً أساسياً يؤثر في مسار الاقتصاد الوطني، ويعيد رسم الخريطة السكانية والتنموية للبلاد.. فالعالم بأسره، بما فيه الدول الغنية بالمياه، يواجه تحديات متصاعدة في إدارة هذا المورد الحيوي، فما بالك بدولة تصنف منذ عقود ضمن الدول الجافة نسبياً، مثل سوريا.
في حديثه لصحيفة الثورة، يؤكد رئيس اللجنة العلمية لفرع نقابة المهن المالية والمحاسبة الدكتور عامر خربوطلي أن المياه رغم كونها ثروة متجددة بطبيعتها، إلا أنها شديدة الحساسية للعوامل المناخية والتقلبات الجوية، فضلاً عن الاستنزاف غير المدروس للمخزون الجوفي.
ويضيف: إن ما يطرح اليوم بحدة ليس فقط أزمة المياه بحد ذاتها، بل أثرها المباشر والعميق على مختلف القطاعات الاقتصادية، من الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، إلى الصناعة التحويلية والاستخراجية، وصولاً إلى المشاريع الخدمية والبنى التحتية والمراكز التجارية والسياحية.
ويشير الدكتور خربوطلي إلى أن تذبذب الهطولات المطرية وتكرار موجات الجفاف، حتى في مناطق الاستقرار الزراعي الأولى والثانية، أدّى إلى تراجع إنتاج محاصيل استراتيجية مثل القمح، وتوقف زراعة القطن الذي كان يوماً ثروة وطنية ترفد الاقتصاد بسلسلة قيم مضافة من الحقل حتى تصدير الألبسة، والمفارقة المؤلمة- بحسب قوله- أن سوريا التي كانت مكتفية ذاتياً من القطن باتت اليوم تستورده، إضافة إلى الغزول.
ويكشف عن ظاهرة جديدة تتمثل في الانزياح السكاني الداخلي نحو المناطق الأكثر وفرة بالمياه، بعد أن كانت الهجرة الداخلية سابقاً مرتبطة بفرص العمل، هذه التحولات أحدثت اختلالاً ديمغرافياً واضحاً، فمناطق بأكملها فرغت من سكانها، مقابل أخرى مكتظة إلى حد الاختناق، ما يفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويؤكد أن معالجة الملف المائي لم تعد تحتمل التأجيل، إذ يتوجب إعادة دراسة الخريطة المائية السورية بما يتماشى مع التخطيط الاستثماري والعمراني والسكني، مع الاستفادة من سنوات الوفرة المائية عبر إقامة سدود سطحية قليلة التبخر وتبني الابتكارات العالمية في هذا المجال.
وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، شهدت سوريا جفاف مئات الينابيع وتراجع غزارة الأنهار، إلى جانب انكماش المساحات الزراعية المروية وتدهور الأراضي البعلية، ما أسهم في تراجع الغطاء النباتي وتزايد التصحر، مستشهداً بأمثلة صارخة، تبدأ من غوطة دمشق، مروراً بمناطق القلمون التي كانت تزخر بالينابيع، وصولاً إلى الشمال الشرقي الذي كان يعد سلة غذاء سوريا.
ويختم خربوطلي بالقول: “المياه ليست مجرد مورد، بل هي عصب الاقتصاد، ولا تنمية حقيقية أو بنية تحتية متطورة من دون رافد مائي مستدام.”