الثورة – تحقيق هبة علي:
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، يجد العديد من السوريين أنفسهم فريسة سهلة لوهم الربح السريع الذي تروّجه منصات المضاربة بالعملات المشفرة، وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة، يستمر هؤلاء في الانخراط في هذه الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف، وقد خسروا مدخراتهم.
في هذا التحقيق الصحفي نطّلع على الواقع من خلال عرض اعترافات العديد من الضحايا.
اعترافات
نور.ك – شابة من حمص، كانت من بين اللواتي انجرفن وراء حمى التداول، تقول: في اليوم الذي وضعت فيه 300 دولار أميركي، أُغلقت المنصة!.
منصة “إيران مول”، كما تسميها، اختفت من دون سابق إنذار، تاركةً ” نور” والمئات مثلها أمام خسارات مؤكدة وغير مفهومة.
قصة استدراج سهام محمد، وأحمد علي، تبدو “محبوكة أكثر” كما يصفانها، فقد استدرجتهما منصة أخرى عن طريق معارف، تحمل اسم “DOBIBO”، موجودة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ومنتشرة بكثرة بين أهالي حماة واللاذقية ودمشق، هذه المنصة التي تمتلك قناة تلغرام فيها أكثر من 23 ألف مشترك – مكَّنت بعض الناس من تحقيق وسحب أرباح ليعتقد الآخرون أن المنصة حقيقة، لكن ذلك لم يكن إلا طعماً، فقد أغلقت أبوابها يوم الجمعة الماضي.
حاولت سهام، وأحمد السحب في الفترة الماضية، لكن من دون جدوى.. كُتب على المنصة أنهم أوقفوا العمل للمراجعة، ووضعوا منصة جديدة “VICTORY”، ووعدوا بأرباح كبيرة.
وللتوضيح نطرح أمثلة: إذا وضعت 100 دولار تأخذ 40 دولاراً عليها مباشرة! لكن تبيّن أنها حيلة، تخدع من خسر أمواله على “دوبيبو” أنه سيسترجعها على”فيكتوري”.
وتعبّر سهام عن واقع حالها قائلة: “أنا وضعت مبالغ صغيرة، لكن هناك أناس لا يملكون سوى تلك المبالغ التي وضعوها، أنا وإياهم كالغريق الذي يتمسك بقشة، بسبب الوضع الاقتصادي ونريد تحسين دخلنا”.
وتتابع: أعرف أشخاصاً باعوا سياراتهم وعقاراتهم ووضعوا ثمنها في هذه المنصات.
مأساة
قصة محمود. د، من دمشق، هي مأساة بالنسبة له، فقد باع محمود عقاره ووضع قسماً من ثمنه في إحدى المنصات، ثم طُلب منه إضافة المزيد، فالمزيد، فالمزيد، ليجد نفسه قد أفلس تماماً.
يقول محمود: “صاروا يجرجروني ويسحبوا مني لخلص حق البيت، والآن لا مصاري ولا بيت”.
أما سعيد. ج، فيقول: إنه استمر بالتعامل مع هذه المنصات رغم عدم ثقته بمصداقيتها، ورغم علمه بأنها غير مسجلة قانونياً، وأنها تشبه القمار، وأنها قد تغلق فجأة، لكنه كان يربح منها، وقد ضاعف أمواله، وأضاف: نحن في وضع بطالة، وهذا شغل سهل ومربح.
لكن سعيد، الذي تحدث بهذه الثقة قبل فترة، عاد يشكو في حديثه لـ”الثورة” من أن المنصة التي استثمر فيها أغلقت، وخسر كل رصيده، وتتجسد في كلماته لوعة الخسارة مع دعوة ملحة: “جيبولنا بديل، هذا الشغل موجود في كثير من الدول ومرخص خارج البلد، ويفتح آفاقاً كبيرة لاستثمار الأموال بالخارج، نطالب بوضع قوانين ناظمة للحماية من النصب، لأن الانفتاح ما زال محدوداً، فنحن بحاجة هذه القوانين لتحويل هذا النشاط إلى مهنة قانونية تجارية للاستثمار وتأمين فرص عمل موسعة للتدريب الفني، بدل أن يتحول إلى مهنة للاحتيال و للمراهنات غير المشروعة”.
بوابة إلى الأسواق
يعرِّف الخبير الاقتصادي نداء نصرة التداول: عملية بيع وشراء الأصول المالية بهدف تحقيق الربح، فهو كالعمل التجاري، لكنه يجري على سلع غير ملموسة، بخلاف التجارة العادية التي تقوم على تبادل سلع ملموسة.
أما ما يتم تداوله فهو مجموعة متنوعة من الأصول، أهمها: “الأسهم” التي تمثل حصص ملكية من الشركة، و”العملات الحقيقية (الفوركس)”، إذ يتم تبادل العملات كشراء اليورو وبيع الدولار، و”العملات الرقمية”، وهي افتراضية وغير خاضعة لرقابة مركز محدد، وأشهرها البيتكوين، بالإضافة إلى “السلع والمعادن الأساسية” كالذهب والفضة والنفط.
وفي حديثه لـ”الثورة” تحدث نصرة عن منصات التداول، التي قال: إنها برامج أو تطبيقات تتيح للمستخدم الوصول إلى الأسواق المالية لممارسة عمليات البيع والشراء، أي إنها تعمل كوسيط بين المتداول والسوق. وتوفر هذه المنصات آليات لتحليل الأسواق وتحديثاً لحظياً لأسعار جميع الأصول.
ومن أكثر المنصات شهرة وانتشاراً في العالم منصتا “MT5″ و”MT4” اللتان تتميزان بسهولة الاستخدام وتوفير أدوات تحليل فائقة، بالإضافة إلى منصات مثل “eToro” و”Plus500″.
حمى التداول
وأكد نصرة، أنه ونتيجة للثورة الرقمية الهائلة التي اجتاحت العالم، فقد حدث إقبال كبير على التداول بسبب مزيج من العوامل الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والنفسية، حتى بات لدينا الآن ما يسمى “حمى التداول” الشبيهة بحمى الذهب التي اجتاحت البشرية سابقاً.. وهنا، كأي مجال آخر، تبرز الفرصة لتواجد منصات تداول احتيالية تستخدم أساليب نفسية وتقنية متطورة لخداع المستثمرين وخاصة المبتدئين.
وفي جوابه عن كيفية عمل منصات التداول الاحتيالية، أجاب نصرة: إن العملية تبدأ عادة بحملات تسويقية مكثفة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتستخدم عدة أساليب أهمها، منها: أولاً: الإغراء بالأرباح الخيالية والسريعة والمضمونة.
ثانياً: التلاعب بالبيانات، إذ تعرض بعض هذه المنصات رسوماً بيانية وهمية لتحركات السوق لإيهام المستخدم بأنه يحقق أرباحاً، فيما الواقع مغاير تماماً، وقد يتم التلاعب أيضاً بأسعار الأصول وتأخير تنفيذ الأوامر عمداً.
وعلى الرغم من تعدد أنواع منصات التداول الاحتيالية، يؤكد نصرة أن أكثرها ضرراً وانتشاراً تلك التي تعتمد على فكرة التسويق الهرمي الاحتيالي، فهذه المنصات تستخدم المحتالين بداية بعد أن تدربهم على طرائق الإقناع واستدراج أكبر عدد من الراغبين بتحقيق مكاسب تفوق إمكانياتهم، وكلما ازداد عدد الواقعين في حبائل هذه الشبكة، ازدادت أرباح صيادهم وتضاعفت حصته من العمولات، ثم بدورهم، أولئك الذين سقطوا في هذا الفخ يبدؤون باستدراج أشخاص آخرين لزيادة مكاسبهم، وذلك بعد أن وعوا آلية العمل الجارية في هذه المنصة.
وحينها تصل المنصة إلى الهدف المنشود من إنشائها، إذ بات الصيادون والفرائس جميعهم يعملون لصالحها ويحصلون أموال المودعين لحسابها، وتزداد تلك الأموال حتى نصل إلى اللحظة الكارثية التي تقرر فيها هذه المنصة سرقة جميع الإيداعات والاختفاء.
علامات تحذيرية
وفي هذا السياق، أشار الخبير نصرة إلى بعض التحذيرات التي يجب الانتباه إليها، والتي قد تكون مؤشراً على عدم مصداقية المنصة، وأهمها:
أولاً، الوعود بأرباح مضمونة، فلا يوجد استثمار آمن كلياً، كما أن التداول هو شكل من أشكال التجارة وأي جهة تعد بربح مضمون فهي على الأرجح محتالة.
ثانياً، غياب التراخيص الموثوقة، فشركات التداول الشرعية تكون مرخصة ومنظمة من قبل هيئات مالية معروفة للأوراق المالية والبورصات، أما الشركات الاحتيالية فإما أنها لا تملك ترخيصاً أو تدعي الحصول عليه من جهات غير معروفة.
ثالثاً، تقديم عمولات لاستدراج مستثمرين جدد، أي منح عمولة على إضافة مودع جديد إلى شبكتك.
رابعاً، تقديم عروض لإضافة نسبة على مبلغ الإيداع، كمنح نسبة زيادة على الإيداع في حال تم خلال مدة معينة.
وأوجز الخبير نصرة أهم عوامل اندفاع الأشخاص وإقبالهم الكبير على التداول في الآونة الأخيرة، بما يلي:
أولاً، حلم الثراء السريع الذي يتعدى قيود الوقت والجهد.
ثانياً، قصص النجاح المنتشرة لأشخاص حققوا ثروات من التداول، ومنها عن أشخاص انتقلوا من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش.
ثالثاً، البطالة وعدم كفاية الدخل.
رابعاً، الرغبة في الاستقلال المالي.
خامساً، وهم السيطرة والرغبة في التحدي والإثارة.
ويتحدث عن بدء عمل هذه المنصات في المجتمعات العربية التي ينشط فيها التداول الحقيقي، واستغلت الدخل العالي والقدرات المالية الكبيرة لدى سكان هذه الدول، كما استغلت وجود نسبة كبيرة من العمالة الأجنبية التي يمكن استغلالها بسهولة كبيرة على المستويين كصيادين وكفرائس، فغالبيتهم يسعون إلى تحقيق أكبر عائد مالي يمكنهم من الرجوع إلى بلدانهم بشكل أسرع.
ومع مرور الزمن وانكشاف هذه المنصات وطريقة عملها، بدأت بالانحسار من هذه البلدان والظهور في بلدان أخرى اعتماداً على العمالة التي ذكرناها سابقاً، إذ ينتقل هذا العامل من استهداف سوق الدولة التي يعمل فيها إلى سوق بلده الأم، مستغلاً صلاته بأفراد مجتمعه الأساسي من قرابة وصداقة ومعارف، فيبدأ الترويج لهذه المنصات، مدعياً أنها السبب الرئيسي في ثرائه، بالإضافة إلى وعود وأوهام وردية خلبية، فتنتشر هذه المنصة انتشاراً كبيراً بسبب عدم وجود تجارب سابقة لهذا المجتمع مع شركات مماثلة.
توصيات للمتداولين
وختم الخبير الاقتصادي نداء نصرة ببعض التوصيات الضرورية:
أولاً، يجب الابتعاد عن كل عمل ليس قانونياً ولا توجد أطر قانونية وتنظيمية له بعد.
ثانياً، يجب أن يتذكر الجميع أن التداول ليس وسيلة للثراء السريع، فهو مجال يحتاج إلى التعلم والممارسة والقدرة على إدارة المخاطر.
ثالثاً، يفضل دائماً البدء بالتداول عبر حساب تجريبي، إذ إن كل المنصات الموثوقة توفر حساباً تجريبياً مجانياً يمكنك من تجربة التداول بأموال غير حقيقية لزيادة معرفتك وخبرتك دون خسارة حقيقية.
رابعاً، لا تسهم في أي منصة إلا بعد التأكد التام من مصداقيتها ومن تراخيصها، وذلك عبر هيئة مالية معروفة وخاضعة إلى رقابة قانونية.
خامساً، إذا كنت ترغب في اتخاذ التداول كعمل ثابت ودائم، لا بد لك من تعلم الأساسيات والاستراتيجيات، وفهم الأسواق المالية وتقلباتها، ثم إجراء العمليات اعتماداً على دراسة وتحقيق.
ولفت إلى أنه صدر بيان توعية وتحذير من مصرف سوريا المركزي بتاريخ 18 آب من هذا العام جاء فيه: “لوحظ في الآونة الأخيرة وجود نشاطات وتداول غير رسمي للعلامات الرقمية، وهي عملات افتراضية تتكون من أكواد رقمية قابلة للتخزين يتم تداولها إلكترونياً عبر الإنترنت ولا تخضع للإشراف أو ترخيص من أي جهة رسمية، كما أنها لا تمثل عملة قانونية معتمدة، وهي غير صادرة عن مصرف سوريا المركزي، ولذلك فإن عمليات البيع والشراء التي تتم بها غير قانونية، والتعامل بها يحمل العديد من المخاطر التي يجب الانتباه إليها.