الثورة – سعاد زاهر:
في رواية “أبيض قان” للكاتب غيث حمور، تقول بطلة العمل في لحظة بوح: “لم أندم على كل لحظة عشتها، قمت بما أملاه عليّ ضميري، ولم تخلُ أبداً اللحظات من الأمل، حتى حين بدا أن غودو لن يأتي أبداً”.
هذه الجملة تلخّص الروح التي تسكن النص، كأنها انتظار بلا يقين لكنه انتظار يصرّ على البقاء، منذ الصفحات الأولى للرواية، يضعنا الكاتب في مواجهة ثنائية قاسية، الجمال الأبيض مقابل البقع الداكنة التي تتكاثر مع المطر والدماء، والبراءة التي تتلوث بالوحل السياسي والاجتماعي.. الأبيض هنا ليس رمز الطهر وحده، بل هو شاهد على التلوث، لون يفضح أكثر مما يخفي، وكأنه يقول: كل ما نعتقده نقياً معرّض لأن يتلطخ بمجرد أن يعبر الشارع أو الساحة.
يبدأ النص بإحالة ذكية إلى مسرحية بيكيت “في انتظار غودو”، إذ الشخصيات، مثل سناء تبحث عن معنى لوجودها في لحظة تتقاطع فيها الأحلام الكبرى مع الخوف الصغير، الانتظار هنا ليس قدراً مسرحياً مجرداً، بل انتظار واقعي محفوف بالخطر، هل سيأتي الغد الذي يرفع عن السوريين ثقل القمع؟ أم سيظل “غودو” الغائب مبرراً لبقاء الألم معلّقاً؟.
النص ينجح في تحويل مسرح العبث إلى مشهد يومي، الشخصيات ليست ممسرحة فحسب، بل هي من لحم ودم، من خوف وتحدٍّ.. سناء، الفتاة التي تجد نفسها من بوابة الأوبرا إلى قلب المستشفيات الميدانية، تتحول من متفرجة على الأدب الإنكليزي إلى شاهدة على دماء السوريين.

من الطهر إلى المواجهة
سناء تصرّ على أن تُمسك خيط الحياة ولو كانت تعرف مسبقاً أنه سينقطع بين يديها، منذ اللحظة التي تجلس فيها على سور الأوبرا بفستانها الأبيض، يتضح أن هذا اللون سيلاحقها كقدر، الأبيض الذي يتلوث، الأبيض الذي يتحول إلى كفن، الأبيض الذي يصبح شرشف مستشفى ميداني.
لكن ما يثير الانتباه أن شخصية سناء لا تُقدَّم بوصفها ضحية فقط، بل بوصفها ذاتاً فاعلة، هي التي تختار أن تبقى رغم نصائح الأب والأم، هي التي ترفض مغادرة دوما لتبقى مع أهلها، هي التي تقرر أن تدخل المستشفى الميداني رغم الخوف، هنا يبرز البعد الإنساني للنص، البطولة ليست في الصراخ الكبير، بل في القرارات الصغيرة التي تُتخذ في لحظة مصيرية.

يختبئ في الظل
إلى جانب سناء، يطلّ منصور بوصفه الوجه الآخر للالتزام، هو المحامي الذي يترك لغة القانون ليدخل لغة التهريب والإغاثة، يتحرك بين الأسماء المستعارة والأدوار المستترة، في زمن يسحق فيه النظام كل ما هو ظاهر، تصبح النجاة مرتبطة بالقدرة على التخفي.
منصور هو نموذج الإنسان الذي يقرر أن يضع قناعه ليبقى قادراً على مدّ يد العون، لكنه مع ذلك لا يتخلى عن إنسانيته، العلاقة بينه وبين سناء ليست مجرد حب، بل تواطؤ على الأمل، اتفاق غير مكتوب على أن الاستمرار في العمل المشترك أهم من كل اعتراف عاطفي مباشر.
بين التوثيق والشعرية
ما يميز “أبيض قان” أن لغته تنتقل بين السرد التوثيقي واللغة الشاعرية، الكاتب لا يهرب من التفاصيل، أسماء الأحياء، أصوات القصف، وجوه الشبيحة، رائحة الدم، حتى الحوارات المقتطعة من الحياة اليومية، لكنه في الوقت ذاته ينسج على هذه التفاصيل خيوطاً من الصور التي ترفع النص من مجرد شهادة تاريخية إلى عمل أدبي.
اللغة هنا لا تُعطي القارئ فرصة للحياد، بل تجعله شريكاً، كلما حاول أن يتنفس يواجهه مشهد دموي، وكلما أوشك على الانهيار تمنحه اللغة بارقة أمل صغيرة، كأنها تكرر ما كانت سناء تردده، لن أستسلم.
عنوان الكتاب “أبيض قان” ليس وصفاً لونياً بريئاً، بل تركيب يتلاعب على الحافة، الأبيض عادة ما يقترن بالبراءة، لكن حين يُضاف إليه “قان”، يصبح مشبعاً، متخماً، يكاد يصرخ بدمٍ يختبئ تحته، الأبيض في النص ليس لوحة فارغة، بل مساحة ملوثة بالدماء والأوحال والذكريات، من فستان سناء الأول حتى الشاش الملفوف على جروحها، الأبيض يحضر ليكشف أن لا شيء يظل نقياً.
قصة سناء ليست سيرة ذاتية، لكنها قادرة أن تمثل آلاف النساء اللواتي وجدن أنفسهن بين خيار الهروب وخيار المواجهة، السيرة الفردية تتحول هنا إلى ملحمة جماعية، والملحمة نفسها تنكسر إلى تفاصيل يومية، رحلة “المكرو باص”، رعب الحواجز، أصوات الشتائم، استجداء الدواء، هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تجعل النص أكثر صدقاً من أي خطاب سياسي.

الأمل في قلب العدم
في كل فصل تقريباً، هناك صدى فلسفي يتجاوز الحدث المباشر، حين تتساءل سناء عن معنى الحقد، أو حين تستحضر “غودو”، أو حين تواجه سؤال الموت في وجه الأطفال، يفتح النص باباً للتأمل الوجودي، نحن لسنا فقط أمام رواية عن الحرب، بل أمام نص يسائل معنى الإنسانية حين تُختبر في أقصى حدودها، هل يبقى الإنسان إنساناً حين يرى جثث الأطفال؟ أم أن الوحشية تتسلل إليه كما تسللت إلى عناصر النظام؟ النص يرفض الإجابة النهائية، لكنه يصرّ على التذكير بأن الأمل، ولو كان خيطاً واهياً، هو ما يمنح الحياة معناها.
شهادةٌ للأزمنة القادمة
“أبيض قان” ليس مجرد رواية عن الحرب السورية، بل نص يضع القارئ في مواجهة نفسه. هو مرآة قاسية، لكنها ضرورية، لكي نتذكر أن الإنسان لا يُقاس بما يملكه أو بما يقوله، بل بما يفعله حين يكون العالم كله ضدّه.
الكتاب في جوهره ليس فقط عن سناء أو منصور، بل عن كل من عاش تحت سماء سوريا في زمن الانهيار، إنه عن الأب الذي يردد أن النظام يعفّش الحياة، عن الأم التي تبكي وحيدتها، عن الطبيب الذي يواصل عمله رغم القصف، عن السائق الذي يهرّب الموتى لينقذ الأحياء. بهذا المعنى، يصبح الأدب في أبيض قان ذاكرة جماعية، وثيقة للمستقبل، وجرس إنذار أن العالم لا يمكن أن يستمر في تجاهل هذا الدم، الأبيض هنا ليس لون الطهر وحده، بل لون الكفن، لون الورقة التي تُكتب عليها الشهادة، ولون الأمل الذي يرفض أن يُمحى.