الثورة- حسين صقر:
كلما اشتاق أهل قريتي لسهرات السمر وحفلات الغناء الشعبي التي تتخللها المواويل والدبكة، يقوم اثنان من الشبان بالاتفاق مع البعض الآخر بافتعال مشاجرة يضطر فيها الطرفان لتبادل بعض الكلمات التي لا تخدش الحياء وبصوت عال.

بهذه الكلمات استهل العم محمود مفعلاني، الذي يتجاوز الخامسة والثمانين من العمر، حديثه لصحيفة “الثورة” عن أيام خلت.
عندما يجتمع أهل القرية حول المشاجرة المفتعلة، تبدأ الأطراف المتشاجرة ظاهرياً بالمصافحة وتقبيل الوجوه والعناق.
يلخص محمود مفعلاني المشهد: “وهنا يفاجأ الأهالي بتصرف غريب، وعندما يستفسرون عن سببه، يوضح الفاعلون أنهم تعمدوا إثارة الأمر لجمع الناس في ساحة القرية، بحجة المصالحة وتهدئة النفوس، بينما كان هدفهم الحقيقي لقاء الجميع والسهر معاً حتى وقت متأخر، تعبيراً عن شوقهم لأهل البلدة وحنينهم لأجواء اللقاء”.
أخبار المشاجرات
ويقول مفعلاني: “بالتزامن مع أخبار المشاجرات والخلافات التي تحدث اليوم، بين الحين والآخر هنا وهناك، ينحاز الجميع بشكل أعمى ويتفاقم الخلاف”.

فأولئك اليوم لا يحتكمون للعقل والمنطق، وهو ما يسبب مشكلات لا تحمد عقباها، ولا يمر يوم إلا ونسمع به عن مأساة حصلت لأسباب لا تستحق، من بينها ما جرى منذ أيام في الحي نتيجة خلاف بين طفلين يلعبان الكرة في إحدى مداخل الأحياء، وتشاجرا على سبب ‘من هو الفائز منهما’، وانحاز الأقارب لبعضهم دون الاحتكام للغة العقل، وهو ما أودى بحياة شاب بريء.
العم متحسراً يوضح: “لذا عاد بي شريط الذاكرة إلى الأجواء الحميمية التي عشناها وأهلنا سابقاً، وكيف كنا نعالج الأحداث خلال الأيام الخوالي، حيث ينتهي الخلاف خلال ساعات، وتعود الأمور لمجاريها وكأن شيئاً لم يحدث”.
مواعظ
تساءل مفعلاني: “لماذا لا نستمد من ذلك الماضي العبر؟ ورغم عدم امتلاك أهله للرائي ومواقع التواصل وبرامج التوعية، كانوا مربون و واعظون بكل ما للكلمة من معنى، وما ذكرني بتلك الأحداث والخلافات التي تحصل في هذه الأماكن المليئة بالأشجار والمياه والأجواء المفعمة بالسكينة والهدوء، نفس الأماكن التي كان أهلها يجتمعون على المحبة والألفة والتعاون وإغاثة الملهوف والابتعاد عن سفاسف الأمور، والتي تزهق اليوم أرواحاً نتيجة عدم تحمل الناس لبعضهم ونتيجة الغرور الذي أصاب بعضهم”.

في هذه الأماكن، حسب المفعلاني ” بدل أن نخلد إلى الراحة والهدوء وننسى فيها ضغوط الحياة، نرى البعض ممن ملوا هذا الهدوء يفتشون تحت أظفارهم عن مشاجرة يفتعلونها، ولكن ليس بهدف جمع الأهالي على الفرح والأغاني، بل لتبادل المسبات والشتائم وضرب العصي والهراوات وإطلاق النار”.
واستأنف: “في القرية الظروف متاحة كي تتمتع بأجواء ساحرة، وتنسى نفسك ولن تشعر بالوقت، وتتوقع في أي لحظة زائراً سواء أكان في الصباح الباكر أم آخر الليل لسماع وشوشاته، ولا يقطع شريط تأملاتك أصوات هنا وأخرى هناك، ولا أي ضجيج عابر. تظن السابعة صباحاً الحادية عشرة، وتظن منتصف الليل أول الظلام أو السهرة”.
وساطة أهلية

وتأكيداً على كلام مفعلاني، قال المؤرخ جمال شعبان في حديثه لصحيفة “الثورة” أيضاً: “كان حل الخلافات في القرى يتم بشكل أساسي عبر الوساطة القبلية والعشائرية، ويقوم شيوخ العشائر والوجهاء بدور الوسيط لحل النزاعات من خلال مجالس الصلح، وذلك لتجنب بطء الإجراءات القضائية الرسمية، والحفاظ على الروابط الاجتماعية”.
هذه الطرق المتوارثة، وصفها جمال شعبان مثل ‘العطوة’ وهي هدنة مؤقتة، و’اللم’ حيث يجتمع الأطراف المتنازعة في بيت أحد المصلحين، ويقوم الوجهاء بدور الوسطاء لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة. وبعدها تجتمع الأطراف المتنازعة في جلسات ترعاها شخصيات موثوقة لحل الخلافات، إذ يعطى هؤلاء هدنة مؤقتة تُعقد بين المتخاصمين لمنع الاعتداء المتبادل، وتمنح فترة زمنية لتسوية الخلافات، ويجتمع هؤلاء في بيت من يسمى ‘المَلَم’ لفتح حوار مباشر بينهما.
شعبان أوضح أن “المضافات العشائرية” لعبت سابقاً وماتزال دوراً مهماً في حل الخلافات، وكانت بمثابة مكان لاجتماع الأعيان والوجهاء بهدف الإصلاح، وتميزت هذه الوسائل بسرعة الحل، ولربما أفضل من اللجوء إلى المحاكم الرسمية، ويأخذ كل حقه بهمة هؤلاء المصلحين، ما حافظ على السلم الأهلي وتعزيز الروابط الاجتماعية.