لعلّ الاحتجاجات التي شهدتها باريس وغيرها من المدن والمناطق الفرنسية بداية لحركات وتحركات لاحقة، لن تترك عاصمة النور تستمتع بضوئها المعروف، وخاصة بعد سقوط قتلى واحتجاز وتوقيف المئات من أصحاب البدلات الصفراء، فماذا ينتظر العاصمة الفرنسية ومركز وقطب الفرانكوفونية العالمية؟
المعلومات الأولية كلها تشير الى أن سبب الاحتجاجات يتركز على المطالبة بتحسين الظروف المعاشية، بسبب الغلاء المتزايد وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض القيمة الشرائية، وأخيراً ارتفاع أسعار الوقود في الوقت الذي تنخفض فيه أسعار البترول الخام في العالم.
وقد اجتمعت هذه العوامل كلها من حيث الشكل لتدفع بالمتظاهرين للخروج الى الشوارع والمطالبة بتحقيق إصلاحات معاشية، لم تلبث أن تحولت الى استخدام العنف والعنف المضاد، وبعد أن استخدمت قوات حفظ الأمن والشرطة الفرنسية الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، الأمر الذي دفع المتظاهرين لحرق وتدمير منشآت خاصة وعامة، والتوسع في مساحة الاحتجاجات لتصل جنوب البلاد، حيث سقط قتيل سيكون بمثابة الشرارة التي قد تشعل دائرة الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة في أكثر من منطقة من فرنسا، وخاصة في المدن الكبرى والمناطق الصناعية ومناطق تواجد المهاجرين في أكثر من منطقة.
وهنا لن ينفع مانويل ماكرون زيارته لقوس النصر في باريس بعد عودته مباشرة من البرازيل ومشاركته في اجتماع قمة العشرين، فشعبيته في تراجع كبير، وهو قد وصل حداً من حيث الشعبية يماثل حال سلفه هولاند الذي حظي بأدنى شعبية شهدتها فرنسا خلال حقبة الجمهورية الخامسة.
التركيز الإعلامي الدولي ينصبّ على فرنسا وحرائقها، ويستذكر محيطها وجوارها مستحضراً الاجتماعات الهادئة التي شهدتها بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي ومركز نشاطاته ونقطة تجمع هيئاته ومنطقة الفعل السياسي الأوروبي فيه،فهل ثمة ارتباط أو علاقة بين مثل هذه الاحتجاجات؟ وهل يمكن لها أن تمتد لتشمل مناطق أوسع ؟ وهل يمكن لنبوءة امتداد عدوى التخريب الاحتجاجي الى القارة العجوز؟ وهل يمكن أن تتطور هذه الاحتجاجات المطالبية لتبلغ مرحلة أكثر حدة وأشد تخريباً وعنفاً في فرنسا بالتحديد؟ وهل تكتوي فرنسا وربما غيرها بنيران العنف والتخريب الذي عملت على جعله أسلوباً للإرهاب في سورية وغيرها، وجعلت منه سلوكاً يومياً في العدوان على سورية والمنطقة العربية كلها؟.
كلها أفكار متسارعة تتزاحم في خضم الأحداث المتصاعدة وذات الحدة والعنف والتخريب وقد نقع في تقييمها تحت تأثير العدوان الكبير الذي شهدته سورية، فنقيس وفق واقعنا ونرى حالات مشابهة لما عشنا في السنوات الثماني الماضية، فنتوقع مستقبلاً لهذه الاحتجاجات يشابه ماحدث في بلدنا.
إنها الصورة الأكثر قرباً للتفكير.. ولكن الواقع يقول بالكثير من الاختلافات، فما بين المجتمع السوري والمجتمع الفرنسي اختلاف كبير من حيث الروابط الاجتماعية والسياسية، لكن الشيء الذي يحكم غرائز الشعوب قد يكون واحداً، وهو التأثر المباشر بالمؤثرات النفسية التي تدفع الانسان لاتخاذ سلوك محدد يراد له هنا أن يكون عنيفاً، وهو ماحصل في سورية وقبلها في ليبيا وتونس ومصر، وهو يحدث الآن في فرنسا بعد سقوط قتيل بالقرب من حاجز لمجموعة السترات الصفراء في جنوب فرنسا، الأمر الذي دفع باتحاد نقابات الشرطة لمطالبة الحكومة بفرض حالة الطوارئ في البلاد.
وإذ ننظر كمراقبين عن بعد لشكل الآلية التي تتعامل بها قوات الأمن الفرنسية مع المتظاهرين والمحتجين ندرك حالة الخوف والارتباك التي تضبط إيقاع المواجهات، فمجرد تحرك بسيط تستنفر القوات البرية والجوية، ويبدأ مسلسل استخدام القوة المفرطة خلافاً لما عرفته سورية، إذ كان الإرهابيون هم وحدهم من يعتدي على المؤسسات الحكومية، وعلى المواطنين وعلى المراكز العسكرية والأمنية وقوات الشرطة والبنى التحتية.
وهنا ليس ثمة مجال للمقارنة او للتشبيه، فالحال مختلف الى درجة كبيرة، لكن عدوى الحراك العنيف والقاسي قادرة على الانتقال عبر المجتمعات مهما اختلفت ثقافاتها، ومهما اختلف سلوك أفرادها، فالالتزام بالقوانين في الغرب الأوروبي قائم على الخوف من العقوبة اصلاً، فتحول الى سلوك يومي ممارس، لكنه في حال ضمان عدم وقوع العقوبة فإن المواطن الغربي قد يكون مستعداً للقيام بعمليات تخريب وتدمير في ظل الاحتجاجات والمظاهرات، فكيف يكون الأمر فيما اذا كان هناك وجود لتنظيمات إرهابية تعمل بين هذه الجماعات المحتجة؟
الأمر لايحتاج إلى كثير من التفسير والتدقيق، فما حصل في باريس وغيرها من المدن الفرنسية قد يمتد لغيرها من المدن الأوروبية، وعندها لن يكون للقانون ولا للخوف مكان.
مصطفى المقداد
التاريخ: الأثنين 3-12-2018
رقم العدد : 16851
السابق
التالي