لا يمكن حصول تحول عميق في مجتمعاتنا وتنمية مستدامة دون عملية نقد موضوعي لواقعنا الثقافي والاجتماعي وبنيتنا العقلية التي تشكل الأساس والمنطلق في عملية إنتاج الثقافة المشكلة لسلوكنا العام
ونظرتنا للمحيط والبيئة التي نتواجد فيها وتفاعلنا كأفراد ومجتمعات مع معطياتها وحقائقها الموضوعية، ولا شك إن تلك العملية إن تمت ستحيلنا إلى البحث في جذور ثقافتنا وتكويننا العقلي كجماعة حضارية عاشت وتفاعلت على هذه الأرض منذ مئات السنين إن لم نقل الأف السنين وتشربت ثقافة تشكلت تاريخياً على نحو ما يجعل مسألة الوقوف عند تشكيل وبينية العقل العربي أولوية ضرورية لتكون المدخل لعملية النقد تلك، وهنا يصبح تعريف وتوصيف العقل العربي البوابة والنافذة لولوج ذلك والغوص في حيثياته.
لقد عرف العقل العربي على أنه جملة القواعد والمبادئ التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها لتكون الأساس في اكتساب المعرفة أو تفرضها عليهم كنظام معرفي أو حقل معرفي، ولاشك أن الوقوف عند هذا التعريف يثير العديد من الأسئلة حول طبيعة تلك المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها لتكون المخبر والمختبر أو لنقل المصنع العقلي الذي ينتج الأفكار والمواقف والرؤى في مختلف مجالات الحياة إضافة لمستوى وطبيعة حالات الإبداع الفكري والاجتماعي والاقتصادي والعلمي التي تشكل رافعة التنمية والتقدم الحضاري والقدرة على إنجاز مستوى متقدم في الحقل الحضاري العالمي في إطار المنافسة العالمية والسباق العلمي والتكنولوجي الذي تشهده دول العالم.
إن ولوج الشيء من الداخل أفضل بكثير بوصفه من الخارج ما يعني الحاجة الماسة إلى رحلة تفتيش عقلاني وهادئ في تركيبة الثقافة التي نشأت عليها المجتمعات العربية تاريخياً، حيث تشير تلك الرحلة إلى أن الثقافة العربية عموماً قد تشكلت من عناصر وصفية ووجدانية وقيمية وأسطورية عكست إلى حد كبير طبيعة البيئة الطبيعية التي عاشتها تلك المجتمعات في غالبيتها على بساطتها في قالب روحي وجداني تأملي إلى حد كبير غابت عنه الصورة النقدية والعلمية والفلسفية، ما أدخله في دائرة المعيارية البعيدة عن العقلانية التي تؤسس للجدل والتحليل وبناء المواقف على أساس علمي موضوعي يفصل بين الذات والموضوع والإنسان والطبيعة ما يعني أنه بالنتيجة بناء عقلي سلبي متلقي أكثر ما هو مبدع أو مبادر يتأمل الطبيعة دونما عناء البحث في ماهيتها وبنيتها وأنه جزء من حركتها ونشاطها وألياتها.
إن ما تمت الإشارة إليه لا يعني غياب فترات من التاريخ انتعشت فيها ثقافة النقد وميدان الفلسفة ولكن للأسف لم يتح لها لأسباب عديدة تشكيل ثقافة نقدية على المستوى العام بسبب الدور الذي لعبته الخلافات السياسية والمذهبية والاصطفافات المترتبة وفقها، ما أعاد الأمور إلى سابق عهدها ما أدخل العقل العربي في حالة كمون وكسل لعهود من الزمن ولتأتي فترة استيقاظ في منتصف القرن التاسع عشر كان يمكن لها أن تشكل بداية نهوض عربي بعد الاحتكاك مع الفلسفة الثقافية الغربية وتبيان الفارق العلمي والمعرفي معه ولا سيما في عصر الاستعمار الإنكليزي والفرنسي، ولكن الظروف التي مرت بها دول المنطقة لم تمنحها الفرصة الكافية لصياغة مشروع حضاري تجديدي يعيد الاعتبار لها ويضعها في طريق بناء مجتمعات جديدة.
إن الفارق الحضاري الذي تعيشه مجتمعاتنا قياساً بالمجتمعات الأوربية وغيرها من دول العالم التي استطاعت أن تجسر الهوة المعرفية مع الغرب ولاسيما دول جنوب شرق أسيا عبر توطينها للمعرفة من خلال تبني استراتيجيات تربوية ونظم تعليم متقدمة والانتقال من جلب الأفكار إلى إنتاج الفكر ومن استيراد المنتج إلى توطين العقل المنتج يرتب علينا جميعاً كدول ومجتمعات إجراء عملية نقد جريء لثقافتنا الاجتماعية وبنيتنا العقلية التي أفرزت أساساً تلك الثقافة لجهة أن العقل المنتج هو الأساس في ذلك، وهذا لا يتحقق إلا من خلال وضع استراتيجية تربوية شاملة ومديدة تمنح حيزاً واسعاً في مناهجها للفلسفة النقدية وثقافة الحوار وثنائية الإنسان والطبيعة ومركزية العقل في حياة الإنسان وذلك بدءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءً بالحياة الجامعية، وهذا باعتقادنا يشكل مدخلاً ضرورياً وحاسماً لمستقبل واعد يجعلنا على قطيعة مع مراحل استقالة العقل دونما قطيعة مع فترات مضيئة من تاريخنا وتراثنا الجميل عبر سياقه الزمني الذي ينوف على ألفي عام.
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 31-12-2018
رقم العدد : 16874