جزء من ذاكرة الشعوب يتجلى في أعمالها وتراثها القديم الذي كان في يوم من الأيام حاضراً بقوة في يومياتها، ومع مرور الزمن والتطور والتبدل الذي يطرأ باستمرار على مختلف جوانب الحياة ودخول التقنية الحديثة، يتراجع هذا الحضور تدريجياً لتتحول منتجات الماضي إلى فلوكلور وتراث بعضه يندثر بسبب عوامل الإهمال وعدم التعامل معه، والبعض الآخر قد يلقى نفس المصير فيما لو تراجع الاهتمام به..
ونتحدث هنا عن الحرف القديمة التي نشط بها الإنسان السوري على مدى عهود قديمة، وبرع فيها وتميز إلى أن وصلت إلى أقاصي البلاد وكانت تحظى بطلب كبير بالنظر إلى الإتقان والبراعة في صنعها والدقة والجمال..إلا أن الكثير من تلك المهن التي كانت في يوم من الأيام تمثل هوية حقيقية للمبدع السوري، نراها قد دخلت في عالم النسيان وبعضها لم يعد له وجود وما تبقى ينتظر نفس المصير..
تحديات أخرجت بعض المهن
وفي هذا يشير الحرفي محمد حاج قاب الذي يعمل في مهنة الزخرفة الدمشقية إلى أن عدداً من الحرف انتهت تماماً منذ زمن ومنها مهنة صناعة الطوب وكوى الطرابيش وصناع أحد أنواع الحلوى الدمشقية ويعود ذلك إلى التحديات التي واجهتها تلك الحرف على مدى سنوات، وأدت إلى هجرتها وعدم الاستمرار بها من قبل المهنيين أنفسهم، ففي السابق كان المهني يعلم أبناءه أو عددا من العاملين لديه في الورشة، ويعطيهم أسرار المهنة ليضمن استمرارها وحضورها، لكن التقدم التكنولوجي ودخول الآلة وارتفاع تكاليف الإنتاج اليدوي وعدم جدواه أدى إلى اندثار تلك المهن بسرعة، وتحول العاملين فيها إلى مهن أخرى لتأمين سبل عيش جديدة لهم..
هذا الواقع ينسحب على مختلف المهن التراثية التقليدية التي تُنتَج بأيدي حرفيين مهرة ورثوا الخبرة والحرفة عن الآباء والأجداد وتناقلوها عبر الأجيال، بالنظر إلى تعاظم حجم التحديات التي باتت تواجه الحرفي الذي يعمل طوال اليوم لينتج قطعة أو ربما يحتاج لعدة أيام لينجزها، وهنا يدخل عامل التكاليف المادية ليؤثر أيضاً على عمل الحرفي، حيث تتطلب مواد أولية مرتفعة الثمن، الأمر الذي يزيد في صعوبة بيع وتسويق منتجه، وخاصة للمستهلك المحلي، فهو يحتاج إلى زبون إما سائح أو أن يكون هناك من يسوق له إنتاجه إلى أسواق خارجية تطلب هذا النوع من المنتجات التراثية اليدوية..
ويوضح حاج قاب إن الحرف المتبقية اليوم هي الصدف والنقش، والنحاسيات والنجارة بأنواعها وأهمها الخيط العربي، إلى جانب الموزاييك، والبروكار والأغباني، ولكن هاتين الحرفتين دخل عليهما النول الصناعي ولم يعد الإنتاج على النول اليدوي وهذه أولى نقاط التحول لأهم حرفتين تميزت دمشق بهما عبر العصور وبرع الحرفيون المهرة بإنتاج أفخم الأقمشة والتي كانت تشهد طلباً مرتفعاً عليها في الأسواق الخارجية..
الزخرفة الدمشقية القديمة
ويحدثنا عن حرفة الزخرفة الدمشقية بالقول إنها من المهن القديمة جداً حيث كانت جدران البيوت الدمشقية تزين بنمط زخرفي نافر وهذا ما كان يميز هذه الزخرفة عن غيرها من باقي الزخرفات التي خطتها حضارات أخرى، ولم تقتصر هذه الزخرفة على الجدران فقط إذ امتدت لتشمل كل الأدوات التي يستخدمها الإنسان كالأكواب والصحون و…، الأمر الذي أكسبها قوة وانتشارا، واليوم للأسف هذه المهنة مهددة بالانقراض كمثيلاتها من باقي المهن التراثية اليدوية، بسبب ارتفاع تكاليف المواد الأولية، وتراجع التسويق والتصريف في السوق السورية، وقد أثرت سنوات الحرب العدوانية على سورية، كما أن دخول التكنولوجيا والآلة قلص كثيراً من انتشار هذه المهنة، ولولا بعض الطلبات التي تأتينا من دول عربية ما زالت تهتم بهذه الزخرفة لكانت المهنة انقرضت وانتهت.
فهذه المهنة يعمل فيها 40 حرفياً فقط ولم تعد تشهد دخول دماء شابة جديدة عليها، فلم يعد أحد يهتم بتعلم المهنة بسبب تراجع الطلب عليها، واقبال الشباب على المهن أو الأعمال التي تؤمن لهم مصدر دخل يتناسب مع الواقع الحالي الذي يتطلب دخولاً مرتفعة جداً لتأمين مستوى عيش لائق.
تجاهل
ويلفت هنا حاج قاب إلى أن المناهج الحديثة تجاهلت جانب التراث الثقافي ولم تركز على إبراز هذا الجانب من ثقافتنا وتاريخنا التي هي بالأساس تمثل استمراراً لهويتنا السورية، وبالتالي هذا يجعل الفجوة أكثر اتساعاً بين الأجيال الجديدة وتراثهم المهني وذاكرة مجتمعهم، لنصل إلى مرحلة تصبح تلك المهن والحرف التقليدية تراثاً منسياً..
رسوم وضرائب مرتفعة
وفي جانب آخر يرى أن ما ينغص على الحرفي ويساهم في تعجيل اندثار هذه المهن، هو تدخل بعض التجار ومن سموا أنفسهم شيوخ الكار، ومن جانب ثان هناك الرسوم المالية والضرائب التي تحصل من الحرفي على أساس تجاري بحت بدءاً من فاتورة الكهرباء والماء وضريبة العقار و..مع العلم أن دخل الحرفي لا يتوازى مع هكذا تصنيف..
لذلك فالحرفي حتى يستمر في عمله ويحافظ على التراث والمهن التي تمثل ذاكرة حقيقية يجب ألا تندثر مع الزمن، يجب أن يحظى باهتمام أكثر ويلقى الدعم والاحتضان والرعاية، فالأمر لا يتعلق به وحده كفرد إنما هو من خلال عمله يمثل تاريخا يجب ألا يضيع لمجرد أن أحداً لا يدرك أهمية مثل هذه الأعمال ولا وقعها في ذاكرة الشعوب..
عزوف عن المهنة
هلا كناية نائب رئيس غرفة سياحة ريف دمشق قالت: إن الحرف التراثية التقليدية تواجه جملة من التحديات والصعوبات التي أرهقت كاهل الحرفيين وأدت بالبعض إلى العزوف عن العمل والخروج من المهنة تماماً، ومنها أن منافسة المنتجات الأجنبية المستوردة والتي تؤثر على تسويق المنتج التراثي المحلي، إلى جانب استغلال بعض التجار للحرفيين ولجهودهم، وشراء منتجاتهم بأسعار رخيصة ليقوموا بعد ذلك بعرضها وبيعها بأسعار مرتفعة في الأسواق المحلية والخارجية، وهذا الجانب مرتبط بعدم توافر أسواق تجارية خاصة لأصحاب المهن الحرفية التقليدية ليعملوا فيها ويسوقوا منتجاتهم بشكل مباشر للزبائن دون أن يضطروا لبيعها لتجار بأسعار غير مناسبة وفيها ظلم لجهدهم وإبداعهم ومهارتهم..وهنا يمكن أن نشير إلى أن الأمر مرتبط بعدم توفر موقع الكتروني متكامل يدعم مسألة التجارة الإلكترونية للحرف اليدوية، وكذلك جانب الدفع الإلكتروني الأمر الذي يمنع وصول الحرف السورية إلى الأسواق الخارجية بسهولة ويسر، في ضوء ارتفاع تكاليف الشحن والنقل وأحياناً تصل إلى مستويات تكون فيها أعلى من قيمة المنتج الحرفي نفسه.
مشروع لإحياء المهن التراثية
من هنا وبالنظر إلى أهمية الحرف اليدوية بوصفها ذاكرة يجب المحافظة عليها وتراثا يعكس ثقافة وقدرة الإنسان السوري على التكيف مع الحياة وتأمين أدواته اللازمة لمعيشته من خلال المواد المتوافرة له، فقد كان من المهم أن ننطلق بمشروع يدعم الحرفي ويؤمن له الفرصة للاستمرار في عمله مع تطوير العمل بما يتناسب مع التطور الحاصل، والتسويق لهذه المنتجات والتعريف بها في الأسواق الخارجية والمحلية لتبقى حاضرة بعراقتها وأصالتها.
وبالفعل انطلق المشروع في العام 2010 وهو مشروع ارتيزانا الذي يهدف إلى إحياء التراث واستعادة ألقه وعراقته التي تمتد إلى مئات السنين وتسليط الضوء على الحرف مع إعطائه صبغة حديثة تتناسب مع معطيات الحاضر دون المساس بروح الماضي التراث، وهذا يساهم في إعادتها إلى دائرة الضوء من جديد وتحقيق حضور قوي لها وحمايتها من الانقراض، وفي نفس الوقت فإن المشروع يهدف أيضاً إلى دعم الحرفيين ومساعدتهم على الاستمرار بعملهم والتمسك بحرفتهم من خلال تشغيل الورشات الصغيرة لتصنيع منتجات مميزة وخاصة للمشروع، وبذلك يكون المشروع حقق الهدف الآخر وهو الأهم لجهة التعريف بالإرث الثقافي لسورية بصورة عصرية وجاذبة، فالفن الموروث قد لا يفي وحده بالغرض ولا بد من مواكبة عصرية تجذب المهتمين من مختلف دول العالم.
مصنوعات شرقية عصرية
وعليه فقد اهتم المشروع بتقديم المنتج الحرفي السوري على شكل هدايا صغيرة يحملها معه السائح أو الزائر ويكون جاذباً ومقنعاً ومتناسباً مع روح العصر لكن بمسحة تراثية، وتم التركيز على صناعة الصناديق الخشبية الصغيرة بشكل يدوي مع إدخال مزيج من العناصر الشرقية في مكوناته كالخشب والبروكار الدمشقي الأصلي أو قماش الصايا أو الصدف أو الموزاييك، وكذلك صناعة المنتجات الزجاجية اليدوية والرسم على الزجاج الملون، وصناعة المنقوشات النحاسية ومنتجات القيشاني الدمشقي والمنتجات الفخارية والحفر والرسم على الخشب.
يساهم في تنمية المجتمع
وتلفت كناية إلى جانب آخر في مشروع ارتيزانا، حيث يتم النظر إلى الحرف اليدوية ليس فقط من جانب أنها تستوحي الهامها من التراث وتعكس قدرات الإنسان السوري الحضارية والإبداعية، فهي من جانب آخر تساهم في عملية التنمية وخفض الهجرة من القرى إلى المدن بحثاً عن عمل، حيث تعتبر الحرف والصناعات التقليدية التراثية أحد المصادر المولدة للدخل لمختلف فئات المجتمع وخاصة في الأرياف، ولنا تجربة غنية في هذا المجال حيث بحثنا في ريف الساحل السوري عن سيدات يعملن منتجات الحرير اليدوية وبالفعل وجدنا الكثير من السيدات الماهرات بهذه الصناعة لكنهن لا يجدن من يطلب منهن عملا أو يسوق منتجهن وهذا الأمر يجب التنبه له لكون هذه المهن تحمل في طياتها قيمة مضافة كبيرة لدعم الاقتصاد الوطني من خلال تشغيل هذه الفئات..
الحرف منتج سياحي
من جانب آخر فإن الارتباط المباشر والعضوي ما بين الحرف اليدوية التقليدية و النشاط السياحي هو أمر مستمر ومن خلال الاهتمام بهذا الجانب نضمن استمرار المهن الحرفية التراثية بالعمل، ونساهم في تأمين دخل لهم، ويبقى التراث الثقافي والحضاري محفوظاً ومستمراً إلى جانب منتجات التكنولوجيا والتقانة الحديثة.
مقترحات
وفي ضوء هذه المعطيات تشير كناية إلى أنه من الضروري النظر بجدية إلى جملة من المقترحات التي تعتبر مهمة لدعم الإنتاج الحرفي وضمان استمراره والتي منها التخفيف من نسب الضرائب والرسوم على المنتجات الحرفية عند بيعها، وإنشاء أسواق خاصة لأصحاب الحرف والمهن التراثية، ومنحهم قروضا بفائدة قليلة وخاصة لفئة الشباب في المناطق الريفية والنائية للمحافظة على المهن التراثية التي تتميز بها كل منطقة من مناطق بلادنا الجميلة، وإدخال بعض المفاهيم المرتبطة بالحرف التراثية في المناهج المدرسية والتأكيد عليها بوصفها تمثل جزءاً من الثقافة الوطنية، والعمل على توثيق وترويج الحرف الشعبية والتراثية المتنوعة والتي تتميز بها مختلف المناطق السورية من خلال المهرجانات والمعارض والكتب والمطبوعات، واستخدام أساليب جذابة لعرض هذه المنتجات في شركات الطيران والبرامج الإذاعية والتلفزيونية ووضع أكشاك في المواقع السياحية والأثرية لبيع المنتجات اليدوية، والدعوة لإنشاء مؤسسات أهلية تعنى بحماية الحرف اليدوية التقليدية.
إحداث ثانويات ومعاهد
وربما من المهم إحداث ثانوية خاصة بالحرف التقليدية التراثية بكل محافظة، وإنشاء معاهد تعليمية خاصة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي والحضاري لا تعتمد على شهادة علمية عالية للاستفادة من الحرفيين المهرة ونقل خبراتهم إلى الأجيال الناشئة وتدريبهم عليها، وإيلاء اهتمام أكبر من اتحاد الحرفيين بأصحاب المهن الصغار والمغمورين وعصرنة الحرف وتطويرها وتطوير العاملين فيها، وإقامة ملتقى سنوي ترعاه وزارة السياحة ويدعى إليه الحرفيون من دول عربية وأجنبية للاستفادة وتبادل الخبرات والمعارف والمهارات، إلى جانب تنشيط دور مكاتب السياحة والسفر في الخارج ودعم ترويج الحرف التقليدية، وإنشاء موقع إلكتروني متكامل خاص بالحرفيين والصناعة اليدوية التقليدية بشكل عام، بهدف زيادة الوعي الثقافي لتاريخ هذه المهن وأهميتها الاجتماعية والاقتصادية.
محمود ديبو
التاريخ: الجمعة 11-1-2019
الرقم: 16882