كلام الليل يمحوه النهار، ذلك ما دأب عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة قبل عامين، فما أن يعلن عن قرار حتى يعدله أو يتراجع عنه دون اكتراث بالنتائج، فعلى سبيل المثال أعلن ترامب في 19 كانون أول الماضي قرار سحب القوات الأميركية من سورية في مدة ستين يوماً لكنه ما لبث أن انقلب على الجدول الزمني الذي وضعه للانسحاب مناقضاً ما صرح به سابقاً ليعلن تمديد المهلة إلى أربعة اشهر، ويوم الإثنين الفائت أعلن في تغريدة له على موقع توتير بأن بلاده ستعمل على (تدمير تركيا اقتصادياً في حال وجهت ضربة للوحدات الكردية بعد الانسحاب الأميركي)، لكنه بعد 6 ساعات فقط أجرى مكالمة هاتفية مع أردوغان عرض خلالها استعداد بلاده لإنشاء منطقة (آمنة) بعمق 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية تاركاً أمر إنشائها إلى تركيا، وتشمل مدن وبلدات تتبع محافظات حلب والرقة والحسكة وتمتد لمسافة 460 كيلومتراً.
إن المتتبع لتطورات الأحداث في شرق نهر الفرات يعلم بأن مخططات إنشاء ما يسمى بالمنطقة (الآمنة) ليست بالأمر الجديد. إذ طرحت على بساط البحث بين المحتلين التركي والأميركي عام 2016 لكن أنقرة رفضت العرض الأميركي لأن واشنطن أرادت أن تكون هذه المنطقة خاضعة لسيطرتها، دون إشراك الجانب التركي، ولعل السؤال المطروح اليوم ما أوجه الاختلاف بين الاقتراح الأميركي السابق والجديد؟
لقد وجدت الولايات المتحدة نفسها بأنها دخلت في حرب لا طائل منها. وأن الإدارات الأميركية المتعاقبة قد تكبدت خسائر جسيمة على المستوى الاقتصادي والبشري جراء انغماسها في حروب غير مجدية لم تجن منها أية منافع، إذ تبين بأن تكلفة الحرب على سورية تجاوزت تكلفة بناء الجدار مع المكسيك، فضلاً عن أن المعارك التي خاضتها في هذه المنطقة قد أفضت إلى مصرع وإصابة الكثير من الجنود الأميركيين دون أن يكون لذلك أية نتائج ملموسة.
ويبدو أن ترامب سعى إلى تغيير موقفه من تركيا، تحسباً لارتماء الأخيرة أكثر في الحضن الروسي وخاصة بعد أن شهدت العلاقات بين أنقرة وموسكو تحسناً ملموساً عقب اعتذار أردوغان لبوتين عن إسقاط طائرة السوخوي الروسية في تشرين الثاني عام 2015، ما انعكس تحسناً في العلاقات السياسية والتجارية والعسكرية بين البلدين، وكان من نتائج ذلك شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي اس 400 وهذا من المحظورات الأميركية، كما ساهم هذا التحسن بإنشاء مسار آستنة التي أفضت إلى إنشاء مناطق تخفيف التوتر في سورية ونتائج أخرى لم تكن في مصلحة الأميركيين.
كما ساهم هذا التحسن في نقل العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وموسكو إلى مرحلة متقدمة تمثلت بإقامة مشروع حيوي لنقل الغاز الروسي عبر تركيا أو ما عرف بخط أنابيب تركستريم للغاز، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة، ويبدو بأن العرض الترامبي الأخير لأنقرة هو خطة الهدف منها استعادة الثقة مع الحليف التركي بعدما تعرضت لهزات عديدة في الآونة الأخيرة، ويبدو أن الخطة لاقت النجاح المطلوب إذ لم يكد العرض يصدر من واشنطن حتى تلقفه النظام التركي بالقبول والرضى التام.
لا يختلف متابعان بأن شروع تركيا والولايات المتحدة بإنشاء منطقة عازلة في شمال سورية هو اعتداء سافر على دولة مستقلة وعضو مؤسس في الأمم المتحدة، وهو سلوك عدواني يؤكد بأن تركيا لها أطماع في شمال سورية منذ زمن بعيد، ولطالما تطلعت للاستحواذ على هذه المنطقة بوصفها من أكثر المناطق السورية غنى لجهة معدلات أمطارها العالية وجودة زراعاتها الاستراتيجية فضلاً عن آبار النفط التي تنتشر في الكثير من بقاعها، ما يجعل أنقرة تتذرع بأي ذريعة وخاصة المسلحين الأكراد لاحتلال هذه المنطقة الهامة من سورية.
بالأمس تناقلت وسائل الإعلام خبر تفجير في منبج أودى بحياة خمسة من الجنود الأميركيين إضافة إلى العديد من مرتزقة أميركا في المنطقة دون أن تعرف الجهة المنفذة، الأمر الذي جعل كل جهة تعطي تفسيراً لما حدث وفقاً لأهوائها، وكان من أبرز ما ورد حول ذلك ما أعلنه تنظيم داعش عن مسؤوليته عن التفجير للإيحاء بأنه مازال موجوداً وباستطاعته ارتكاب أفعال خرقاء، بالرغم من أنه صنيعة أميركية تم إنشاؤها لتكون الذريعة المناسبة للتدخل الأميركي.
بطبيعة الحال ومهما كانت الذرائع الأميركية أو التركية لإقامة هذه المنطقة فإن الجمهورية العربية السورية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي احتلال خارجي تسعى له منظومة العدوان ممثلة بتركيا والولايات المتحدة، وستتحول هذه المنطقة الآمنة بمفهومهم إلى أكثر المناطق سخونة وفقداناً للأمن وذلك لإخراج أردوغان ومرتزقته منها. وقد تعالت الأصوات المنادية برفض الاحتلال التركي حتى أن المواطنين الأكراد بمختلف توجهاتهم أعربوا عن رفضهم القاطع لإحداث منطقة عازلة، وهذا ينسحب على باقي الأهالي الغيارى على وطنهم والمستعدين للتضحية بكل نفيس وغال لدحر الأعداء وتحرير كامل التراب السوري.
ليندا سكوتي
التاريخ: الجمعة 18-1-2019
الرقم: 16888