بين الغنى والفقر، بين واحات الأمان والسلام ، بين دروب الطمأنينة، المتعددة ضاعت أحلامهم في سراديب الحرب العدوانية على بلادنا لتبدأ قصصهم وحكاياهم بألوان عذاباتهم مفردات رووها بألسنتهم يقول هذا الطفل على سبيل المثال للحصر : أنا /عبد القادر /الطفل الصغير المدلل المفعم بالنشاط والحيوية كنت أعيش في منزل واسع وجميل وغرفة كبيرة ورائعة عندي ألعاب كثيرة وجميلة وسيارات «وأرنوب كبير وبطوط وتويتي ومكي ماوس وسبونج بوب ودراجة وطائرات وكرات وأشياء كثيرة ورائعة» ..عندي ملابس كثيرة وجميلة صنعها لي والدي(أصبح جريح وطن), فأبي خياط ماهر وعندي من الطعام ما لذ وطاب من الحلويات إلى المكسرات والعسل إلى كل الطعام اللذيذ فأمي طباخة ماهرة وطعامنا حسب النظام الغذائي الصحي ,حياة جميلة ومثالية رائعة.
وفجأة وفي يوم أسود قاتم سمعت بأصوات لم أسمعها من قبل كانت قوية ومخيفة سألت والدي عنها فقال لي إنها أصوات انفجارات وقذائف سألته: ماذا تفعل؟ فقال له: تقتل الإنسان فقلت :لماذا يقتل الانسان ومن يقتله؟ فلم أجد جواباً .. غادرنا منزلنا الجميل على عجل في جنح الظلام وأنا أنظر خلفي أردت أن اصطحب معي ألعابي كي يناموا معي كالعادة لكن والدي منعني وقال لي ليس لدينا وقت سألته إلى أين؟ فقال: إلى مكان آمن فقلت وهل من مكان آمن أكثر من منزلنا ؟فمن سيطعم عصفوري الجميل ومع من سأتحدث قبل نومي فأنا متعود على التحدث مع ألعابي قبل نومي والنوم معهم…
بدأنا نتنقل من حي إلى حي ومن مدخل بناء إلى آخر حتى وصلنا إلى مدينة أخرى غير مدينتي، دخلنا منزلا متواضعا مظلما لا يوجد فيه ألعاب ولا ملابس جميلة ولا طعام ولا شراب قال لنا والدي هذا بيتنا الجديد فسألته / صاخباً/ لماذا فقال هذا فيه الآمان ..عشنا فيه فترة من الزمن كانت قاسية فكان والدي يعاني الصعاب حتى يؤمن لنا أدنى مقومات الحياة. وفي يوم أسود أكثر من قبلة بدأنا نسمع نفس الأصوات السابقة من انفجارات وقذائف ورصاص جاء رجال غرباء لا نعرفهم بلباس أسود وشعر طويل مقزز ولحى كان شكلهم مخيفاً ومقززاً دمروا البيت فوق رؤوسنا كان الأمر مريعاً مخيفاً قاسياً لم يمر علي أسوأ من هذا اليوم أخرجنا من تحت الركام ونحن في أقصى درجات الخوف والهلع، أصيب أبي بكسور وأمي برضوض وجروح وأنا بجروح قالوا إنها بسيطة ولكن لماذا ؟
غادرنا المنزل المهدم رغم جراحنا خائفين ضائعين متخفين ونحن نشاهد الكثير من الجثث المتناثرة في كل مكان والبطون المبقورة والرؤوس المقطوعة وبرك الدماء كانت مشاهد مريعة ولكن لماذا؟انتقلنا من بيت لآخر ومن قرية لأخرى وأنا أشرد في خيال بعيد هل هذا حقيقة أم خيال فإن كان حقيقة ..لماذا؟ وصلنا إلى قبو بناء مظلم قاتم رطب لا يوجد فيه ماء ولا كهرباء ولاطعام ولا شراب ولا ألعاب ولا أدنى مقومات الحياة فقال والدي هذا بيتنا الجديد هذا فيه الآمان …كنا لا نرى فيه الشمس ولا يقينا من حر الصيف ولا برد الشتاء وشح في الطعام والشراب قضينا فيه فترة من الزمن، وفي يوم أسود آخر عادت الأصوات المخيفة تفجيرات صواريخ قذائف رصاص انتشر الخوف والرعب والهلع على وجوه الجميع من كبير وصغير حتى على وجه أمي وأبي أناس تهرب من المكان جثث واشلاء تتناثر خراب و دمار دبح حرق وأشياء كثيرة كثيرة مرعبة جاء أشخاص مرعبون وحشيون قاتلون بدؤوا يسألون أبي وأبي يجيب بعدها اصطحبني رجل شرير مخيف مرعب إلى المنزل المجاور الخاوي من سكانه بعد أن هربوا منه دون مرافقة أحد من أفراد أسرتي وبدأ يهددني بالقتل والذبح وكان معه أشرار أخرين يهددوني أيضاً.
استل أحدهم سكينة كبيرة سأذبحك الآن وكاد أن يفعل لولا أن تدركني رحمة الله وعنايته ولكن ..لماذا؟
عدت إلى أسرتي حين سنحت لنا الفرصة من جديد وغادرنا المكان تحت القذائف والقصف العنيف وبين وابل من الرصاص الكثيف وكان الرمي مباشرا علينا لقد كانت لحظات قاسية مليئة بالخوف والرعب والهلع والدموع وأقسم بالله لم يكن لدينا أدنى أمل بالنجاة حتى خرجنا من مكان المعركة وعدنا نفترش الأرض ونلتحف السماء وبدأ أبي يبحث لنا عن مكان آمن جديد كما يقول لنا أبي في كل مرة …..
وأنا نور شقيقة عبد القادر الصغرى الطفلة النشيطة سمعت من أبي وأمي وأخي أنه كان لنا منزل جميل وطعام وأشياء رائعة ولكن أنا لا أذكر شيئا من هذا فقد كان عمري عامين فقط فأنا لم أر سوى بيت متواضع قالوا لي أنه ليس منزلنا ومدينة ليست مدينتنا لم أر ألعابا جميلة ولا طعاما فاخرا ولا ملابس جديدة إلا ما ندر ولا اشياء جميلة اعتقدتها في ذات يوم أنها قصص من الخيال من حكايات الأطفال قبل النوم … أنا عشت طفولة قلقة فيها الكثير من التفجيرات والقذائف والرصاص والدمار والخراب والكثير من الجثث والأشلاء والدماء والخوف والرعب والترحال من قرية إلى مدينة ومنزل وغابة وأماكن مهدمة وشح في الطعام والشراب واللباس لم أر مثل غيري من الأطفال ملابس جميلة ولم أتذوق طعاماً شهيا إلا ما ندر ولم أقتن مثل غيري ألعاباً جميلة جديدة أو حتى قديمة ..ولكن لماذا؟
أنا عبد القادر وأنا نور باسمنا وباسم كل أطفال سورية الحبيبة نسأل من سرق طفولتنا من سرق ابتسامتنا من هدم منازلنا من هدم مراكزنا الصحية والثقافية من قتل سارية وجورج ومحمد وساري. من دمر مدارسنا ومن خرب ملاعبنا ومن حرق حدائقنا ومن تاجر بدمائنا من حرمنا من براءة طفولتنا؟ فكم من طفل جائع وكم من طفل ضائع وكم من طفل محروم وكم من طفل محروق وكم من طفل مفجوع وكم من طفل شهيد وكم من طفل جريح وكم من طفل فقد أباه أو أخاه أو عائلته .
نحن أطفال سوريا الحبيبة بكل أطيافنا نوجه صرخة إلى شعوب العالم المدعي بالتحضر وإلى كافة المنظمات والهيئات الدولية والجمعيات العالمية التي تدعي حرصها على الإنسان والحضارة نوجه صرخة إلى الضمائر الحية أن بقي .. إلى الضمائر المتصلة بالإنسانية أو الضمائر المنفصلة عنها إلى الضمائر المستترة خلف شعارات براقة نوجه صرخة مدونة عليها تيقظهم من ثبات عميق حاقد ويحي فيهم ضمائر ميتة وتفكك قلوب متفجرة وعقول جامدة ونقول لهم .
كفاكم دماء وكفاكم خراباً وكفاكم دماراً و كفاكم قتلاً.. نصرخ في وجههم ونقول أعيدوا إلينا براءتنا أعيدوا إلينا ابتسامتنا ..دعونا نحيا بسلام دعونا نحيا بأمان دعونا نحيا كما نشاء .
كفانا قهرا وظلما وموتا ..لقد كانت سورية بلدنا من أجمل البلدان ومازالت .أطفال سورية تستحق الحياة ..لقد كان والدنا (جريح الوطن)يكتب عن الحب والعشق والغرام .وللأسف أصبح يكتب عن الحرب والدمار والدماء.
هيثم يحيى محمد
التاريخ: الأحد 20-1-2019
الرقم: 16889