في تطور يعكس تصدعاً داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وتحيط به الكثير من الصعوبات والعراقيل والتحديات الداخلية والخارجية.. وقعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء الماضي على معاهدة صداقة جديدة تحمل بعداً دفاعياً وامنياً، ويمكن وضعها في إطار المشروع الأوروبي لبناء جيش موحد للاتحاد الأوروبي، يكرس في جزئية منه حالة من الافتراق النسبي مع الولايات المتحدة الأميركية ونية أوروبية مبطنة بالتخلص من حالة الهيمنة.
المعاهدة التي جرى توقيعها بمدينة آخن الألمانية في الذكرى الـ56 لتوقيع معاهدة الإليزيه في باريس بين الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول والمستشار الألماني آنذاك كونراد أديناور، وصفتها ميركل «بأنها مساهمة في إنشاء جيش أوروبي»، الفكرة أو المشروع الذي تحدث عنه ماكرون في تشرين الثاني الماضي بعد ظهور تباينات بين السياسة الأوروبية والأميركية حيال قضايا الدفاع وميزانية حلف الناتو.
تتناول المعاهدة المجال الدفاعي والسياسة الخارجية والأمن الداخلي والخارجي والتضامن والتكافل بين البلدين، حيث يلتزم الطرفان بالتشاور لتحديد مواقف مشتركة «حول كل القرارات المهمة التي تمسّ مصالحهما المشتركة والعمل معاً، حيث كان ذلك ممكناً»، حيث يشرح الفصل الثاني من المعاهدة والمسمى «السلام والأمن والتنمية» صورة التعاون المستقبلي بين البلدين.
وينص البند الخاص بالتعاون الدفاعي على أن البلدين «يمدان يد المساعدة أحدهما للآخر بكل الوسائل التي يمتلكانها، بما في ذلك القوة المسلحة في حال الاعتداء على أراضيهما». ويشمل ذلك أيضاً العمليات الإرهابية التي عانى منها الطرفان في السنوات القليلة الماضية.
كما تنص المعاهدة على إنشاء «المجلس الفرنسي – الألماني للدفاع والأمن» وعلى إمكانية نشر مشترك لقواتهما خارج حدودهما، كذلك، تدعو المعاهدة إلى تعزيز «تجانس وفاعلية أوروبا في المجال الدفاعي» وسد الفراغ في المجالات الضعيفة بما يعزز الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، ويلتزم البلدان أيضاً بتعزيز تعاون قواتهما المسلحة وبلورة برامج دفاعية مشتركة وتوسيع التعاون بضم شركاء آخرين وتعزيز التعاون الصناعي الدفاعي والتكنولوجي وتوحيد مقاربتهما في ميدان تصدير المعدات الدفاعية الناتجة من تعاونهما.
وفيما يخص الأمن، تسعى المعاهدة للارتقاء بالتعاون في ميدان الأمن الداخلي، والحرب على الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتعاون الاستخباري والقضائي، أما في الميدان الدبلوماسي والسياسي، فإن الطرفين عازمان على تعزيز التعاون بين وزارتي الخارجية وتبادل الكوادر عالية المستوى، وتعزيز التشاور في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
هذا التوجه الأوروبي لإنشاء جيش مشترك نواته قوات ألمانية وفرنسية يمكن توسيعه في المستقبل ليضم قوات من دول أوروبية أخرى يواجه رفضاً أميركيا، حيث اعتبره الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمس أمن بلاده ولا يقتصر على مواجهة روسيا والصين.
انتقادات داخلية
وكما هو متوقع واجهت المعاهدة انتقادات واسعة في البلدين وشدد أقصى اليمين في فرنسا وألمانيا وأيضا أقصى اليسار الألماني، انتقاداتهم لها معتبرين أن مثل هذا التعاون يهدد السيادة الوطنية لكلا البلدين، اعتبرت المعارضة فرنسية أن باريس ستتقاسم بحكم المعاهدة مقعدها الدائم في الأمم المتحدة مع برلين، في حين اعتبر آخرون أنها تمهد لتنازل فرنسا عن مقاطعتي اللورين والألزاس اللتين كانت موضع خلاف بين الدولتين قبل أن تستعيدهما فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ضوء الانتقادات الداخلية والاعتراضات الأميركية حيث تملك واشنطن سطوة على القرار الأوروبي ما هي حظوظ هذا المشروع من النجاح، وهل سيكون الجيش الأوروبي القادم بديلاً عن الناتو الذي تملك فيه واشنطن الصوت الأعلى والحضور الأقوى، أم أنه سيتحول إلى قوة هامشية محدودة التأثير في ميزان القوى العالمي الذي يعاد رسمه مجدداً بعد صعود قوى جديدة وعودة روسيا إلى الساحة الدولية كقطب مؤثر..؟!
رغم تقارب المواقف في موضوع الجيش الأوروبي، فإنه من الصعب المقارنة دفاعياً وسياسياً، بين فرنسا القوة النووية المعترف بها دولياً والعضو الدائم في مجلس الأمن وبين ألمانيا التي ما زالت تستضيف قاعدة عسكرية أميركية، وتعتمد إلى حد كبير على حماية المظلة النووية الأميركية. كذلك، فإن الدستور الألماني يحد إلى درجة كبيرة انتشار قوات ألمانية خارج الحدود، كما أن لألمانيا معايير أكثر تشدداً فيما يخص الصادرات الدفاعية، وجاء تعليق أمين عام الحلف الأطلسي يان ستولتنبرغ لافتاً، لجهة ترحيبه بالمعاهدة الجديدة واعتباره أن التعاون الفرنسي – الألماني مهم لأمن واستقرار أوروبا، في حين كانت تعليقاته الخريف الماضي أكثر تحفظاً، وقد نبّه وقتها إلى أنه ما من بديل عن الحلف الأطلسي.
يذكر أن فكرة قيام جيش أوروبي أثارت استياء ترمب الذي اعتبرها «مهينة للغاية»، وحمل على تصريحات الرئيس الفرنسي الذي قال إن هدف هذا الجيش حماية أوروبا من دول مثل روسيا والصين، واعتبر أن المشروع موجه كذلك للولايات المتحدة.
محطات
تعود فكرة الدفاع الأوروبي المشترك إلى عام 1948 عندما وقعت بريطانيا، وفرنسا واتحاد دول البنلوكس (اتحاد اقتصادي يضم بلجيكا، وهولندا ولوكسمبورغ)، على معاهدة بروكسل.
كما تمت الدعوة إلى تأسيس دفاع أوروبي مشترك، في عام 2009 أيضاً عند توقيع معاهدة لشبونة التي تعد من أهم معاهدات الاتحاد الأوروبي.
وعقب ضم روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، دعا رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي، جان كلود جكر، عام 2015 إلى إنشاء جيش أوروبي مشترك بدل الجيوش الوطنية.
ورغم توقيع 25 دولة أوروبية، على وثيقة التعاون الدفاعي الهادف لتعزيز التكامل الأوروبي في المجال العسكري، تحت مسمّى «تعاون منظم دائم»، إلا أن هذا لا يعني تأسيس جيش للاتحاد الأوروبي.
كما خصصت مفوضية الاتحاد الأوروبي، ولأول مرة في تاريخها، أموالاً ضخمة للدفاع وصلت إلى 28 مليار يورو، وذلك ضمن إطار ميزانية 2021- 2027.
تحديات في الطريق
يمكن النظر إلى المقترح في الوهلة الأولى، على أنه رد فعل إزاء تصريحات ترامب، التي يستهدف بها العواصم الأوروبية وينتقدها لعدم تقاسمها النفقات الدفاعية بشكل عادل، فضلاً عن القلق من تخلي واشنطن عن مسؤولياتها الدفاعية.
ففي مقالة تحليلية نشرتها وكالة الأناضول التركية في تشرين الثاني الماضي تحت عنوان «جيش أوروبا الآمال والطموح» أوضح كاتب المقال أن فكرة إقامة جيش أوروبي موحد ليست قابلة للتطبيق من حيث الاقتصاد الدفاعي وإعداد خطة دفاعية، نظرا لما يترتب عليها من أعباء مالية كبيرة، فضلا عن أسباب أخرى، معتبراً أن قيام جيش أوروبي تعترضه الكثير من التحديات والعراقيل، وقد أورد مقارنة بين الولايات المتحدة وبين أوروبا ليؤكد وجهة نظره.
يقول الكاتب عند تقييم فكرة الجيش الأوروبي، من منظور التحديث العسكري والدفاعي، نجد أن القوات المسلحة الأمريكية متناسقة أكثر، ولديها مخزون أكثر دقة من الأسلحة، على عكس الحالة الأوروبية.
يرى الكاتب أن انتقال الوحدات العسكرية الأوروبية من بلد أوروبي إلى آخر، يعد صعباً للغاية، نظراً للقوانين السائدة والعجز في البنى التحتية في مجال النقل والمواصلات.
ويضيف أن تأسيس جيش أوروبي، يحظى بدعم كل من ألمانيا، وإيطاليا وإسبانيا، إلا أنه لا يلقى القبول ذاته من قبل مجموعة دول «فيشيغراد» التي تضم التشيك، والمجر، وبولندا، وسلوفاكيا.
كما أن بريطانيا التي تملك أقوى وأكبر الجيوش الأوروبية، تواصل عملية «بريكست» للخروج من الاتحاد.
في حين تعارض كل من بولندا، ولاتفيا وليتوانيا، إنشاء جيش أوروبي موحد، لخشيتها من عجز هذا الجيش الناشئ في الدفاع عنها ضد ما يسمى الخطر الروسي، وهي تفضل «الناتو» في الدفاع عنها.
بعض البلدان الأوروبية التي تعتمد مبدأ «الحياد العسكري» ولا تنضم في التحالفات العسكرية مثل النمسا، والسويد، وفنلندا وأيرلندا، تعارض بطبيعة الحال فكرة الجيش الأوروبي الموحد.
ولا ننسى أن دول الاتحاد الأوروبي تعجز عن التوصل إلى موقف موحد في أبسط الأمور مثل تغيير التوقيت، وبالتالي يبدو أنه من غير الممكن تنازل الأعضاء عن حقوقهم السيادية في مجال الدفاع لمصلحة مؤسسات الاتحاد.
كما يجب الوضع بعين الاعتبار، المسؤوليات الاقتصادية والمالية التي ستترتب على إنشاء جيش أوروبي موحد.
البلدان الأوروبية التي تواجه صعوبات في إيفاء كامل مسؤولياتها وتعهداتها المالية تجاه حلف «ناتو»، لا تستطيع تحمّل الأعباء الاقتصادية الإضافية والناتجة عن زيادة النفقات الدفاعية من أجل الجيش الأوروبي الموحد. الصعوبات والتحديات الحالية القائمة تظهر مدى صعوبة تأسيس جيش أوروبي موحد رغم تظاهر الاتحاد الأوروبي باتخاذه خطوات كبيرة في مجال الدفاع المشترك على الصعيد النظري، إلا أن هذا الهدف سيظل بمثابة خيال وحلم على ما يبدو.
بالمحصلة، يتوجب على الدول الأوروبية في ظل الظروف الحالية، التركيز على وضع استراتيجيات واقعية، وتخصيص ميزانيات مراكز البحث والتطوير لحرب الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والقدرات السيبرانية، وأنظمة الحروب الإلكترونية وما شابه من أنماط الحروب التكنولوجية الرائجة في الفترات الأخيرة.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 25-1-2019
الرقم: 16894