بقامة طفل اختزل مسؤولية رجولة عملاقة و مخضرمة ، فأدرك باكرا ان الحياة ليست دائما بألوان زاهية و لا وردية ، وبحنكة خبير متمرس في إدارة الوقت ، قسم ساعات يومه المزدحم بالواجبات بين عمله في محل الشاورما و دوامه المدرسي ومراجعة دروسه و كتابة وظائفه ، لا وقت لديه لممارسة دور الطفولة في اللهو ، فهو على يقين تام بأن الألعاب لم تفصل على مقاس أمثاله من الفقراء « بماذا و متى سألعب لقد كبرت على الألعاب « .
كان شادي يحمل بفخر و اعتزاز شهادة تقدير وتكريم من إدارة مدرسته لتفوقه في جميع المواد الدراسية في الصف السادس ، وكأنه يريد أن يشهد العالم أجمع أن اليتم لم يحبط من عزيمته على النجاح ، و ان الفقر لم يكسر جناحيه الصغيرين ليكون عاجزا عن الطيران لالتقاط رزقه في سوق العمل الذي لا يرحم خصوصية و براءة الأطفال ، و أن اليتم و الفقر هما الجانيان و المتآمران على سنوات طفولته الضائعة في اللهاث وراء لقمة العيش بعد فقدان الأم إثر مرض ألم بها و استشهاد الأب ، وانهيار جدران أمانه النفسي و المادي و تصدع الحضن الأسري .
الآن على عاتقه تقع مسؤولية تفوق سنوات عمره الثلاثة عشر ، و أحلامه الطفولية قد شاخت و هرمت لتراكم المسؤوليات ، وهدية التفوق مجرد حلم يجري بعيدا هاربا من شادي و امثاله من فاقدي الرعاية الأبوية .
كان شادي يسابق بنظراته المسافات ليسرع الخطا إلى بيت جدته وحيدا و كأنه رجل هرم قد خبر الطرقات و حفظ الشوارع عن ظهر قلب ، و قد خيب ظنوني و توقعاتي فهدية النجاح حتما ليست بانتظاره من الجدة و لا حتى وجبة غداء احتفاء بالمتفوق المجاهد على خشبة الحياة ، بل على العكس فشادي يحمل أجره الأسبوعي البالغ ستة آلاف ليرة ليعطيه لجدته لتجمعه و تدفع أجرة بيتها .
في حين يكرس الأطفال جل وقتهم للدراسة و اللعب و الترفيه تحت مظلة الرعاية الأبوية ، يصارع شادي الحياة وحيدا رغم استضافته من قبل عمته و رعايتها له قدر استطاعتها، و لكن حسب قول شادي.. لولا النقود التي أدفعها لزوج عمتي لكان الشارع مكان إقامتي و الرصيف فرشتي و السماء لحافي .
تبعثرت مشاعري تجاهه و تاهت بين شفقة و إعجاب ، و لم أدر هل أربت على كتفه أم اصفق له اعجابا بصبره و جهاده في معترك الحياة و أثني على تفوقه ، يقول : أصعب ما في الحياة أن يكون هناك من يأمرني و يصرخ علي و لا يرحم ظروفي ، أعمل قبل دوامي المسائي و بعد دوامي الصباحي ، و لي وجبة يومية من المحل عبارة عن سندويشة شاورما أو بطاطا ، و كل أسبوع يعطيني صاحب المحل فروجا مشويا للبيت ، و أتقاضى «براني» على توصيل الطلبات للبيوت .
شادي ليس وحده من بين الأطفال ممن كبروا قبل أوانهم ، بل هناك الكثر و لكن أغلبهم غردوا بعيدا عن أسوار المدارس وهاموا على وجوههم تسولا و تشردا ، ليكون الشارع و الزوايا المعتمة ملاذهم الخطر الذي يعدهم ليكونوا عناصر خطرة هدامة للمجتمع ، بينما استطاع شادي أن يقهر ظلام ظروفه و يجمع في براءة طفولته الحنكة و الذكاء متسلحا بالارادة و العزيمة على متابعة دراسته و العمل ، بانتظار تحقيق حلمه ليصبح طبيبا سيكافح و يناضل وحيدا ، بينما يداعب خياله ثياب جديدة و سرير دافئ و حكاية ما قبل النوم و لمسة حنان .
منال السماك
التاريخ: الأربعاء 30-1-2019
رقم العدد : 16897