ليس للمطر علاقة بذلك وليست النسمات الباردة التي تجعل المرء يلتف على نفسه ويتقوقع في المكان فلا يخرج من ذاته هي الأسباب التي جعلتني أشعر أني بحاجة للبوح والشكوى.
ربما هي حالة الاكتئاب التي تصيبني ككل السوريين في هذا الشتاء الصعب الذي لا تتوفر فيه مستلزمات البرد ليكون المرء مطمئناً ولا يأخذه القلق يساراً وجنوباً ويفقد القدرة على النوم لأنه دائم التفكير؟.. كيف سيؤمن الوقود.. كيف سيدبر مصروف الأولاد؟.. كيف يسدد الفواتير والإيجارات والأدوية ولوازم المنزل ويقوم بالواجبات الاجتماعية؟..
وربما هي العودة بالذاكرة إلى الوراء ثماني سنوات وأكثر، والمقارنة بين الأمس واليوم دفعت للشكوى، لكني تراجعت لأن أمي قالت لي من لا يكتم أسراره ويحمل أوجاعه لن يجد من يحملها معه، تراجعت وأغلقت الهاتف وأنا أعاني من غصة حيث شعرت أن الكلام يقف في حلقي، لم اقدر إلاّ أن أشهق وتسمعني النافذة والجدران، ووجدتني أتكلم بصوت عال وأخاطب أمي.. أنا متعبة أريد ان أحكي هموم الحياة، أحتاج لمن يسمعني، لكن أمي لم ترد، نهضت باتجاه صورتها التي أضعها عند الباب وأضع قربها كأس ماء فيه حبق وورد ..كانت الصورة تبتسم وكنت أبكي، قلت لها الحياة باتت صعبة جداً والأولاد كبروا وطيروا كما العصافير.. أخوتي مشغولون بعائلاتهم وأولادهم، الأصدقاء لم يعودوا كما كانوا، أريد من يسمعني ولا يشمت بي.. من أرمي بحضنه كل متاعبي وأنا مطمئنة بأنه لن يشي بي.
لم ترد أمي، ظلت على صمتها والحبق يحيط بصورتها التي رسمها ابني الصغير لجدته.. فجأة رنّ الهاتف وكانت أختي هي التي تتصل.. قالت ما بك؟.. صوتك حزين، كدت أخبرها بهمومي.. تنهدت وكنت على وشك البكاء.. لكن أختي سبقتني وأخذت تشكو همومها هي الأخرى.. شعرت أني أختنق.. فاعتذرت منها وأغلقت السماعة، إلاّ أنّ صديقة لي اتصلت وقالت: (تعالي ننزل البحر)، فرحت بالدعوة.. وقلت هي فرصة أخرج من الشرنقة الحزينة وأرمي همومي في البحر.. لكني ما أن جلست ورحت أتأمل البحر والموج الذي يأتي ويروح ناطحاً الصخور دون كلل أو ملل حتى شعرت أني لا أقدر أن أحكي للبحر شيئاً فهو مهموم بأمواجه وسجنه الأبدي.
كنت أتأمل البحر بينما صديقتي صامتة تتأمل في خشوع الأزرق العظيم.. ولكن ما لبثت أن راحت تبعثر أحزانها بعد أن شربت القهوة استمعت إليها قليلاً لكني لم استطع متابعتها لأني أحمل هموماً ثقيلة مثلها، لقد شردت مع أني شعرت بها، ولكن حين عدت إلى المنزل كانت حكايات صديقتي قد سقطت كلها في الطريق.. فتحت الباب.. ونظرت إلى صورة أمي ومررت أناملي على وجهها الجميل وقلت بصوت هامس..ليس غيرك يا أمي يستطيع أن يسمعني ويحمل تعبي.
شعرت أنها تبتسم ..وكأني بها تقول: الشكوى لغير الله مذلة.. ألهذا راح الاسكندر يحكي سره إلى حفرة من التراب كي يرتاح؟
ربما لم يكن لديه أمّ.. وأجزم بذلك وإلا كان أخبر سره لأمه لأنها الوحيدة التي لا تفشي أسرارنا.. والوحيدة التي تشم رائحتنا ونحن على بعد أميال منها فتعرف أحوالنا، لك السلام يا أمي والسلام على أمهات سوريا جميعاً .
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 13-3-2019
الرقم: 16930