يتراوح المشهد في شمال وشمال غرب سورية بين التصعيد الممنهج من أطراف الإرهاب وأدواتهم وأذرعهم، وبين احتمالات الاندفاع – كخيار من خيارات الضرورة المطروح على طاولة دمشق وحلفائها – نحو لحظة الحسم التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق، ولا سيما بعد إصرار معسكر الحرب على سورية على العبث بعناوين وحوامل الواقع والتشبث بخيارات ورهانات سبق لها أن سقطت وسُحقت في الميدان تحت أقدام رجالات الجيش العربي السوري.
فقد لوحظ خلال الأيام القليلة الماضية ارتفاع منسوب التصعيد في محيط منطقة خفض التصعيد في إدلب والمنبثقة عن مسار آستنة من قبل المجاميع الإرهابية التي تتلقى الدعم والرعاية من النظام التركي ومن حليفته الأبرز الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يزال الطرفان يراهنان على ما تبقى من شراذم الإرهاب من أجل العبث بعناوين المشهد والعودة به إلى مربعاته الأولى، لتشريع أبواب الابتزاز والصفقات على مصراعيها وقطف ثمار لم يكن بالإمكان قطفها من خلال التدخل المباشر والعدوان على مدى نحو ثماني سنوات من الحرب.
التصعيد على هذه الجبهة وكذلك في ريف دير الزور حيث آخر جيوب تنظيم داعش الإرهابي في الباغوز يأتي في ظل التصريحات المنسقة تارة والمتناقضة تارة أخرى لمحور العدوان، ولا سيما فيما يتعلق بالملفات والقضايا الإشكالية، ما يعرقل التوصل إلى أي اتفاق من شأنه تغيير الواقع على الأرض، ولعل تصريحات رئيس النظام التركي المتواترة والمتكررة في هذا السياق تؤكد حقيقة وجود بون شاسع بين ما تريده واشنطن وما تريده أنقرة، واصطدام طموحاتهما بجدار الواقع، مع وجود رغبة لديهما في الوصول إلى ما يحاكي استراتيجيتهما الاستعمارية والاحتلالية الخاصة، وهذا ما عبرت عنه أنقرة بالحديث عن نيتها تولي زمام الأمور في الشمال السوري بناء على تشجيع ترامب صاحب قرار الانسحاب المتردد والمؤجل، قبل أن تبرز المعضلة الكردية كنقطة خلاف متشعبة الأوجه والتفاصيل.
وفي سياق التصريحات الصماء التي تجافي الواقع على الأرض في أحيان كثيرة، جدد رأس النظام التركي رجب أردوغان رغبته في البقاء في الجغرافيا السورية بذريعة محاربة (التنظيمات الإرهابية) المصنفة وفق هواجسه ومخاوفه المضخمة، مستعيداً في الوقت ذاته تفاصيل الخلافات القائمة بين بلاده وبين الولايات المتحدة حول مصير منطقة الجزيرة السورية، وخاصة ملف الأسلحة الأميركية الموجودة بين يدي مرتزقة قسد والمسلمة لهم خلال سنوات الحرب المزعومة على داعش.
تصريحات النظام التركي البعيدة عن تفاهمات سوتشي ردت عليها موسكو حيث أكد وزير خارجيتها سيرغي لافروف سعي بلاده لاتخاذ خطوات عملية منسجمة مع بنود اتفاق سوتشي، مشدداً على أن الأولوية الآن لدى بلاده هي للاستمرار في مكافحة الإرهاب في سورية والعمل على عودة المهجرين إلى بلدهم، وإعادة سيادة الدولة السورية على جميع أراضيها.
كما كان للوزير الروسي رأياً بخصوص القوات الأجنبية الموجودة بشكل غير شرعي في سورية حيث أوضح أن استعادة وتعزيز الأمن مستحيل دون تسوية النزاعات والأزمات في المنطقة بطرق سياسية ودبلوماسية على أساس القانون الدولي، مبيناً أن الشرعية الدولية لا تقبل بوجود قوات أجنبية في أي بلد دون موافقة البلد صاحب العلاقة.
كذلك أعاد لافروف التذكير بعملية آستنة التي يبدو أن النظام التركي قد نسيها مؤكداً أن أساس هذه العملية هو احترام سيادة سورية وسلامة أراضيها وهي التي أدت إلى خلق ظروف لبداية عملية سياسية واضحة وفق قرار مجلس الأمن ذي الرقم 2254 وضمن ما يحدده السوريون بأنفسهم ويلبي مصالحهم الوطنية.
وبالعودة إلى الميدان تحاول الجماعات الإرهابية المنتشرة بالقرب من منطقة خفض التصعيد في إدلب أو المنطقة المرشحة لنزع السلاح الإرهابي منها وفق سوتشي، تحاول اللعب بالمشهد الميداني عبر تصعيد ممنهج يخدم سياسة أطراف الإرهاب وتوجهاتهم في المرحلة الحالية، حيث يخوضون آخر معاركهم على حافة الهاوية، ولا سيما أن تلك الأطراف وصلت إلى قناعة شبه تامة باستحالة تغيير الواقع المرتسم على الأرض، ما يجعلها أشبه بمعارك انتحارية وهو ما يزيد من ضراوتها كونها أحد تداعيات وارتدادات الهزيمة التي لحقت بهم خلال سنوات الحرب الماضية، إذ لم يعد بالإمكان تحصيل أي مكاسب ميدانية تجعل من الجسم الإرهابي (وخاصة جبهة النصرة) المتحكمة بالمشهد جزءاً من أي عملية سياسية قادمة.
التصعيد الإرهابي الأخير لاقى ما يناسبه من قبل وحدات من الجيش العربي السوري الذي رد برمايات مدفعية مركزة على أوكار وتحصينات ومناطق انتشار المجموعات الإرهابية في محيط اللطامنة والأربعين وكفرزيتا، وذلك رداً على استهداف قرى مصياف في جنوب غرب مدينة حماة بقذائف الغدر، حيث أسفرت تلك الرمايات عن تدمير آليات وأوكار للإرهابيين وتكبيدهم قتلى ومصابين، كما تصدت إحدى وحدات الجيش بالتزامن مع ذلك لهجوم شنته مجموعة إرهابية على إحدى النقاط العسكرية شمال غرب السقيلبية بالريف الشمالي الغربي لحماة وأوقعت أغلب المهاجمين بين قتيل ومصاب في حين فر من تبقى منهم إلى جحورهم.
وكان الجيش العربي السوري قد رد على انتهاكات المجموعات الإرهابية خلال اليومين الماضيين بضربات مكثفة ومركزة على خروقات التنظيمات الإرهابية لاتفاق منطقة خفض التصعيد، ودمر عدة مقرات وأوكار لإرهابيي تنظيم جبهة النصرة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، كما نفذت وحدات أخرى من الجيش رمايات صاروخية مركزة على مقرات ومراكز قيادة لإرهابيي (جبهة النصرة) ومجموعات تتبع له في عمق مناطق انتشاره بريف إدلب الجنوبي في أطراف مدينة سراقب التي تضم العديد من مقرات ومستودعات ذخائر الإرهابيين ومراكز قيادة لمتزعميهم، وقد أسفرت تلك الضربات عن تدمير عدة أوكار والقضاء على عدد من الإرهابيين وإصابة آخرين وتدمير أسلحة وآليات لهم، وتتخذ المجموعات الإرهابية من مدينة سراقب أكبر مدن محافظة إدلب قاعدة أساسية لشن اعتداءاتها على النقاط العسكرية والمناطق الآمنة بريف حماة الشمالي.
وقبل ذلك قضت وحدات من الجيش على العديد من إرهابيي (جبهة النصرة) ودمرت لهم تحصينات ومنصات إطلاق القذائف في خان السبل وأطراف مدينة سراقب وخان شيخون بالقرب من الخزانات بريف إدلب الجنوبي وفي مورك وقلعة المضيق والزكاة والشريعة والجماسة بريف حماة الشمالي.
فؤاد الوادي
التاريخ: الاثنين 18-3-2019
الرقم: 16934