لم تمر لحظات قليلة على قيام محرك البحث (غوغل) بوضع صورة رمزية للفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي على غلاف صفحتها الرئيسية، بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لولادته، حتى بدأ (نوّاحو ونوّاحات) مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث المألوف في مثل تلك الحالات عن مبدعينا الذين نتجاهلهم ونجهلهم، ويسلط غيرنا الضوء عليهم، في حين أن لؤي كيالي تحديداً، يكاد يكون أحد أكثر الفنانين العرب الذين نُشرت عنهم كتب ودراسات وأُعدت حولهم برامج تلفزيونية وإذاعية.
على هذه الفكرة قامت زاوية الأسبوع الماضي، مستعرضة الكثير من الأدلة، فكان لها نصيب بتعليقات جديرة بالاحترام أبدت وجهة نظرها، أو قدمت إضافات مهمة إلى الزاوية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إشارة الفنان والناقد محمود مكي إلى مساهمته الشخصية المهمة في تسليط الضوء على تجربة الكيالي، وإشارة الفنان ضياء حموي إلى أن مجلس مدينة حلب قد أطلق اسم لؤي كيالي على شارع في الشهباء منذ أكثر من عشرين عاماً، وإضافة الفنان وحيد قصاص عن المقلدين والناسخين والمزورين. وبالمقابل لم يخل الأمر -كالعادة- من تعليقات قليلة العدد والأهمية، اعتاد أصحابها تكرار مقولاتهم المملة الخاوية، في كل فرصة تتوفر لهم، حتى لو لم تكن هناك أي علاقة بين مقولاتهم اليابسة البائسة، والنص الذي ألحقوها به، كالحديث المجتر عن غياب النقد عندنا، وهو حديث لا يصدر عادة عن الفنانين الكبار، وأصحاب التجارب الجديرة بالاهتمام، وإنما عن نقيضهم تماماً.
لست بمعرض الدفاع عن النقد والنقاد، وهم ليسوا بحاجة لذلك، ولست لأقف أيضاً عند قول مستهتر، أعرف، وغيري، أسبابه ودوافعه الشخصية الصغيرة، ولو كان صراخ صاحبه المحموم يحاول – دون فائدة – تقديم نفسه بوصفه خصماً لـ (مكاسب شخصية وشللية) هو أحرص الناس عليها، لكني أبحث عن حوارٍ يليق بالثقافة ويخدم الفن التشكيلي من خلال سؤال أولي يقول: ما الذي ستجنيه الحياة التشكيلية، والحياة الثقافية عموماً، من حرص بعض صنّاع اللوحات على التقليل من شأن الكتابات عن الفن التشكيلي عندنا، سواء قدمت باسم النقد، أم البحث، أم الرأي الشخصي، أم المتابعة الصحفية؟
السجال بين النقاد والفنانين، قديمٌ قدم الفن والنقد، وقد اختلفت أشكاله مع اختلاف الموقع الثقافي والاجتماعي – الاقتصادي للفن التشكيلي. في ملتقى ثقافي تشكيلي أقيم عام 2001 قال أحد الفنانين حانقاً ومتحدياً: ليرسم لنا النقاد اللوحة التي يرونها جيدة، فرد عليه أحد النقاد بذات الحنق والتحدي: ليكتب لنا الفنانون النص النقدي الذي يجدونه جيداً. وهنا، ودائماً، تقتضي الموضوعية الثقافية تجنب التعميم، فليس كل من وقع لوحة فناناً، وليس كل من نشر مقالة فنية ناقداً. وتجنب التعميم يتطلب بداية المعرفة الجيدة العميقة، والمتابعة المخلصة، وهما لا يتحققان في الكسل الذي يدفع لاستجداء الآراء الجاهزة المسبقة التي تحفل بها ثرثرات المقاهي والندوات وصفحات التواصل الاجتماعي، وحتى الملتقيات الثقافية و(الفكرية). وفي الملتقى المشار إليه قبل قليل استنكر فنان كثير الاستنكار عدم الاهتمام بالذكرى الخمسين للمعرض السنوي التي مرت قبل عام من ذلك اليوم، ما اضطر أحد الحضور لإعلامه بأن هذه الصحيفة تحديداً نشرت مع حلول المناسبة صفحة كاملة عنها، وإن لم يكن على دراية بها فهذا لا يعني أنها لم تكن.
ومتلازمة الجهل والادعاء ما زالت شواهدها متوافرة بكثرة في حياتنا الثقافية للأسف، ومنها ما رأيناه أخيراً خلال فرصة لإبقاء تجربة كيالي في الذاكرة، حين فضل بعض (الموتورين) بدل المشاركة فيها، اتهام من تحدث وكتب عنه بالإساءة للؤي، بل وحتى اغتياله، علماً أنه ما من ناقد أو كاتب أو صحفي على قيد الحياة كتب عن لؤي كيالي، إلا كان مقدّراً أهمية التجربة وصاحبها، ومتعاطفاً مع مأساته الإنسانية المؤلمة. في السياق ذاته اجتاحت بهجة عارمة بعض متلقي خبر نشر صورة الكيالي على صفحة غوغل، لأنه بذلك بلغ العالمية على حد قولهم، وبلوغ العالمية ليس أكثر أهمية من نجاح الفنان في بلده، وتأثيره فيه، والأمر الثاني حققه لؤي كيالي، رغم ضيق مساحة الاهتمام بالفن التشكيلي في مجتمعنا. لكن موضوع العالمية بحد ذاته بحاجة إلى وقفة غير منفعلة، فإذا كان نشر صورة على الانترنت يعني العالمية، فإن جميع الفنانين أصبحوا اليوم فنانين عالميين.
رغم أهمية لؤي كيالي الكبرى وتميز تجربته، ورغم النجاح الذي حققه في إيطاليا حيث درس، فإنه لا توجد أي لوحة له في متحف عالمي، ليس لأنه لا يستحق وإنما لأن الاعتراف به يتناقض مع سياسة عنصرية تحرص على الترويج للتجارب البدائية الضعيفة في العالم الثالث، وتسدل الستار على التجارب المتقدمة، ترسيخاً لفكرة تحرص على الترويج لها وتقول إن الشعوب المتخلفة لا تنتج إلا فناً متخلفاً. ولذلك فإنه حتى حين بيعت لوحات للؤي في مزادات شركة (كريستيز) الشهيرة، فإن تلك المزادات التي اقتصرت على أعمال فنانين عرب وإيرانيين وأتراك لم تتم في لندن وإنما في دبي حيث فتحت (كريستيز) مكتباً دائماً لها عام 2005، وبدأت في العام التالي تنظيم مزادات، ثم توسع نشاط (كريستيز) ليشمل العاصمة الإماراتية أبوظبي والعاصمة القطرية الدوحة.
لا يحول حصر أعمال لؤي كيالي بالسوق العربية وحده دون اعتبار المزادات مؤشراً لأهمية تجربته، وإنما لأن الأرقام أيضاً تحول دون ذلك. فبعد أن كان مزاد فنون الشرق الأوسط في دبي يحقق أرقاماً مرتفعة منذ أكثر من 10 سنوات، تراجعت تلك الأرقام في السنوات القليلة الماضية، فقامت (كريستيز) بنقل المزاد العام الماضي إلى لندن، وكانت النتيجة أن تراجع ثمن لوحات للؤي عن الثمن الفعلي الذي بيعت فيه خلال مزاد سابق.
ليست أسعار لوحات لؤي هي المهمة، وإنما الأهم هو تكريس حضور تجربته في بلده، وهذه مسؤولية كل معني بالهوية الثقافية السورية، أياً كان موضعه.
سعد القاسم
www.facebook.com/saad.alkassem
التاريخ: الثلاثاء 19-3-2019
رقم العدد : 16935