هناك في ركن ما من الذاكرة مازال يعيش معلم استثنائي لا ينسى، حفرت صورته بالمخيلة وخزنت مبادئه و قيمه لتحيا في تصرفاتنا الحياتية ، و تترجم في سلوكياتنا اليومية ، وتتمثل في أفكارنا و قيمنا كقدوة و مثل أعلى و منارة نقتدي بها ، رغم مرور السنوات لا تبهت صورته ولا تبارحنا توجيهاته و تعاليمه، وكان له تأثير فعال في توجهنا العلمي لحبنا له و تعلقنا بمادته الدراسية، في قسوته كان محبا وفي لينه كان جادا ، فبقي حيا ينبض بالحياة رغم طول سنوات وبعد مسافات ، وربما رحيل أبدي ولكنه لم يفارق طلابه فبقيت ذكراه حية.
المعلم القدوة يبني جيلا واعيا متسلحا بالعلم والمعرفة والقيم والمبادئ الايجابية، وهذا مهم جدا في يومنا هذا ، حيث الغزو الثقافي والفكري يحاصر أجيالنا الناشئة من كل حدب وصوب ليؤثر فيهم سلوكا و فعلا، لتبدو في تصرفاتهم وتوجهاتهم بما لا يتناسب وقيمنا العربية وتوجهاتنا الفكرية كمجتمع محافظ يسير نحو تقدم وانفتاح يوائم تقاليدنا وعاداتنا الاجتماعية والثقافية.
يعد المعلم اليوم وأكثر من الأمس ركيزة أساسية في العملية التربوية والتعليمية نظرا لما يقوم به من دور مهم على مسرح الحياة ، فإعداد المعلم للطالب إعدادا علميا ومسلكيا ووطنيا من الركائز الأساسية التي يبنى عليها استقرار وتقدم الوطن ورقيه ، حيث يمتد دوره لتنمية القدرات وتعزيز الاتجاهات و تربية العقول تربية صحيحة ليكون الناشئة فعالين في بناء الوطن.
بين جيل اليوم والأمس اختلفت النظرة للمعلم وبالتالي طريقة التعامل معه في الحرم المدرسي وخارجه ، وبينما كان الاحترام والود يسودان العلاقة ويحددان حدودها ويؤطران أبعادها ، فالنظرة إليه كانت تنطلق من كونه رسول علم ومنبع معرفة بلا نقاش أو مواربة، لذلك كان التقديس و التبجيل له ، فلا يشك بعلمه أو معرفته، ولا يداس له على طرف ، فلا يرفع أمام قامته رأس و لا ترف عين بحضوره أو يصدر صوت أثناء إلقائه الدرس، إجلالا وتقديرا لعالم ومعلم ورسول ذي رسالة نبيلة.
اليوم انقلبت المفاهيم وتغيرت النظرة وكان الخاسر طرفي العملية التعليمية معا، فالحدود تلاشت تقريبا والحواجز رفعت ، وبات الاستخفاف بالمعلم و علمه، أو التطاول عليه والتمادي بحضوره لدرجة إيقاع الأذى النفسي، وأحيانا يصل الأمر إلى الأذى الجسدي ما يستدعي قرع ناقوس الخطر، لخلل أصاب العلاقة التي تربط طرفي العملية التعليمية لضمان سير ناجح للأداء المدرسي.
كما أن الخاسر أيضا من تردي العلاقة أيضا المتعلم الذي يصرف طاقته و تفكيره في أمور تشتت الانتباه و تخلق الفوضى في الصف ، من خلال اشاعة الشائعات والطعن بقدرة المعلم العلمية والانقاص من شأنه.
ربما يعيش المعلم اليوم وضعا استثنائيا لا يحسد عليه ، وعليه تقع مسؤوليات جسام لأنه يربي جيلا سمي بجيل آخر زمن ، جيل الثورة المعرفية والرقمية وعصر التناقضات و تبعات و تداعيات الحرب التي تركت بصمتها على الجيل الناشئ بما لا يدع مجالا للشك ، فالجيل الناشئ أصبح أكثر حساسية ويميل نوعا ما للتحدي و شيء من العنف ، وبات التعامل معه يحتاج إلى طرق خاصة تكقل التقرب منه و كسب ثقته وإدخال إحساس الأمان إلى قلبه وعقله.
المعلم في وقتنا الراهن بأمس الحاجة لاستعادة مكانته المفقودة مقارنة بقداسة وتقدير الماضي، وهذا لا يتم إلا من خلال تحسين وضعه المعيشي وتعزيز استقراره المكاني والنفسي، فلا ينقص من مكانته بكونه معلما خاصا يعمل موظفا لدى الطالب ، ما يعمل على رفع التكليف وإزالة حواجز الاحترام ، ليعود المعلم رسولا للعلم يحمل رسالة نبيلة في تربية الناشئة وغرس القيم والمبادئ السامية، لتكون تلك المكانة المستعادة والاحترام والتقدير أغلى هدية تقدم للمعلم في عيده.
منال السماك
التاريخ: الخميس 21-3-2019
رقم العدد : 16937