على وقع أجواء التوتر العالمية التي خلفها انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى ورد موسكو على هذا القرار الطائش بالمثل، وفي ضوء فشل القمة المكررة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الديمقراطي كيم جونغ أون بنسختها الفيتنامية، وعلى أنقاض فشل قمة وارسو التحريضية على إيران، يعود وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى المنطقة للعبث بتوازناتها ومعادلاتها القائمة، وفي جعبته المعبأة بالشر والنوايا الخبيثة أكثر من ملف قابل التصعيد والانفجار، حيث تشي جولته التي بدأت الثلاثاء بالكويت وتنتهي في بيروت، بعد التعرّيج الإلزامي على الكيان الصهيوني «بؤرة الشر والعدوان في المنطقة» بأن واشنطن مازالت مصرة على المراوغة في مسألة سحب قواتها من سورية تنفيذاً لقرار ترامب، وهي في طور السعي لملء ما يسمى «الفراغ» الذي تتركه في الجزيرة السورية بعد سحب قواتها وكذلك بعد إخراج دواعشها ونقلهم إلى مكان آخر، والعمل على تمكين مرتزقتها في «قسد» من السيطرة على هذه المنطقة ورسم معادلة جديدة بينهم وبين حليفة الناتو أنقرة بحيث تتوافق مع نزعة رأس النظام التركي رجب أردوغان لإقامة ما يسمى منطقته «الآمنة» في الشمال السوري انسجاماً مع أطماعه التاريخية.
العنوان العريض الذي وضع لجولة بومبيو الثانية في أقل من ثلاثة أشهر هو مواجهة إيران وتعزيز ما يسمى الجهود الأميركية في محاصرة «الخطر الذي تمثله الجمهورية الإسلامية الإيرانية» في المنطقة وتقليص نفوذها المزعوم، ولكن ثمة تفاصيل عديدة مرتبطة بهذا الملف منها ضخ الدماء من جديد في ما يسمى «الناتو العربي» الذي ستقع على عاتقه مهمة المواجهة أو الحرب القادمة مع إيران، ودعم نتنياهو المأزوم في الداخل من أجل الفوز في انتخابات الكنيست المقررة الشهر القادم، والعبث بالاستقرار اللبناني مجدداً عبر تحريض عملاء واشنطن في هذا البلد العربي من أجل الضغط على حزب الله في إطار الحرب الأميركية الغربية الصهيونية المعلنة ضد المقاومة، كما تعتبر صفقة القرن بخصوص تصفية القضية الفلسطينية لمصلحة الكيان الصهيوني أبرز العناوين التي سيناقشها بومبيو في جولته بعد أن شهدت تعثراً كبيراً في المحاولات السابقة.
وتأتي جولة بومبيو للمنطقة على وقع حرب أميركية اقتصادية قاسية على إيران بذريعة استمرارها في تطوير برنامجيها النووي والصاروخي وكذلك نفوذها المزعوم في المنطقة، وفي ظل استمرار واشنطن بارتكاب جرائمها في شمال شرق سورية بحجة القضاء على تنظيم داعش وضربها حصاراً خانقاً حول النازحين السوريين في مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية العراقية وعرقلة معالجة هذا الملف الإنساني من قبل الحكومة السورية المستعدة لذلك.
كما تأتي هذه الجولة بعد زيارة فاشلة قام بها نتنياهو إلى موسكو قبل ثلاثة أسابيع لم يستطع خلالها أن يقنع موسكو بالانخراط في مخططاته لإخراج ما يسمى «النفوذ الإيراني» من سورية، أو الحصول على تعهدات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن منظومة الدفاع الجوية الروسية «أس 300» لن تستخدم في حال كررت إسرائيل مغامراتها العدوانية في الأجواء السورية، الأمر الذي زاد من مخاوف تل أبيب ودفعها لإعادة حساباتها مجدداً.
ويبقى السؤال ما هو نصيب جولة بومبيو الجديدة من النجاح بعد أن فشلت الجولة التي قام بها في كانون الثاني الماضي، حيث تبدو الأمور أمامه أكثر صعوبة هذه المرة، وهنا لا بد من ملاحظة العديد من التطورات التي تلقي بظلالها على المخططات الأميركية والصهيونية في المنطقة، حيث عجزت كل العقوبات الأميركية والتهديدات الصهيونية عن تغيير أو تليين مواقف إيران بخصوص تمسّكها بحقوقها النووية والدفاعية أو التزامها بالدور الإيجابي الذي تلعبه في المنطقة لجهة محاربة الإرهاب في سورية أو مواجهة الأطماع الصهيونية، كما عجزت كل الضغوط والعقوبات الأميركية الممارسة على حزب الله عن ثنيه من مواصلة دعم سورية في حربها على الارهاب والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية في لبنان، وتجلى هذا الفشل بمشاركة الحزب في الحكومة اللبنانية ما فجّر موجة استياء أميركية جعلت العديد من المسؤولين الأميركيين يفقدون صوابهم ويطلقون تصريحات استفزازية ويقومون بزيارات تحريضية داخل لبنان، لكن العجز الأكبر تم تسجيله في الميدان السوري حيث تمكن الجيش العربي السوري وحلفاؤه من تحرير معظم الأراضي السورية من الجماعات الارهابية المدعومة من واشنطن وحلفائها ومحاصرة ما تبقى من فلول الإرهاب في محافظة إدلب استعداداً لمعركة تبدو وشيكة قياساً بالتطورات الأخيرة ولا سيما اجتماع قادة أركان جيوش سورية والعراق وإيران في دمشق وزيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ما يعني أن التنسيق بين الدول الأربعة وصل إلى مرحلة مهمة من التعاون في مواجهة التحديات القادمة ولا سيما ما تبقى من إرهاب وأي احتمالات أخرى من بينها العدوان الصهيوني.
أما في الأرض المحتلة فقد أثبتت عملية الشهيد الفلسطيني عمر أبو ليلى البطولية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي أن لا أمل لصفقة القرن الأميركية بالنجاح طالما أن الشعب الفلسطيني يمتلك هذه النوعية من المقاومين الشجعان الذين يستطيعون هزّ صورة الكيان الصهيوني الغاصب وكسر جبروت القوة التي يفاخر بامتلاكها في مواجهة شعب أعزل إلا من إيمانه بحقه وقضيته العادلة، وهذا ما يزيد من يقين قادة الكيان أن الصفقة مستحيلة ولو تواطأ كل أعراب أميركا في المنطقة وقدموا كل التسهيلات الممكنة ـ النظام السعودي عرض على الفلسطينيين أموالاً وأراضٍ بديلة في سبيل إنجاح وتمرير الصفقة ـ وروّجوا لثقافة الاستسلام والتطبيع والخنوع، لأن أساس هذه الصفقة هو تنازل الفلسطينيين عن حقوقهم في أرضهم ومقدساتهم وهذا يبدو صعب المنال في الوقت الراهن، لأن جيل ما بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وعربان الاستسلام والخنوع والتطبيع، من أمثال أبي ليلى هو صاحب قضية عادلة يؤمن بثقافة المقاومة لأنها الأقل تكلفة وهو يصرّ على نيل حقوقه المغتصبة ولو بحدّ السكين.
وفي كل الأحوال لا يمكن النظر لجولة بومبيو بعيون راضية مطمئنة لأن المأزوم والفاشل يتخلّى عن اتزانه وينزلق في كثير من الأحيان إلى التهوّر والحماقة والمغامرة، ومعروف عن هذا المسؤول الأميركي بالإضافة إلى مسؤولين آخرين يحيطون بترامب مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون بأنهم من أكثر المروجين لثقافة الحرب والصدام والتهور، وليس من المستبعد أن تشهد المنطقة استعصاءً جديداً يستكمل استعصاءات سابقة، ويعيد المنطقة إلى أجواء التصعيد والتهديد والحرب، لتأمين الفوز المريح لنتنياهو المأزوم في انتخابات الكنيست حيث تعتبر هذه الأجواء التصعيدية شرطاً أساسياً ولازماً لفوز الأكثر تطرفاً وعدوانية في إسرائيل، ولكن بالمحصلة لا شيء يحول دون تعرّضهم لاستعصاءات وإخفاقات جديدة في مشروعهم المشترك تعيدهم مجدداً إلى مربع الفشل الذي يحاولون الخروج منه لأن معسكر المقاومة على أتمّ الاستعداد للمواجهة برصيد كبير من الإنجازات.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 22-3-2019
رقم العدد : 16938
السابق