البعث الإنجاز والأمل

مسيرة حافلة بالنضال والكفاح كللتها نجاحات كبيرة وإخفاقات لا تخفى على ذي بصيرة، هي مسار فيه تضاريس سياسية وتحولات مهمة ومفاصل تاريخية تركت ملامحها على الساحة القومية العربية، وحفرت في الذاكرة الجمعية مشاهد لا تخطؤها عين حيث تستحضر دور الحزب في مواجهة عدوان الغرب الثلاثي عام ١٩٥٦ على مصر وكيف تحرك الشارع العربي رافضاً لذلك، ومصطفاً حول زعامة عبد الناصر بوصفه رمزاً قومياً قارع حمى الاستعمار الجديد معتمداً على شارع عربي متحرر من كل ضغوطات الحكومات الرجعية ولا سيما الخليجية منها حيث تمت رسملة ذلك سياسياً عبر الوحدة السورية المصرية عام ١٩٥٨ لتكون أولى إنجازات البعث وهو خارج السلطة ولكنه في قلب الشارع ونبضه الحي وكل ذلك ارتبط بالظروف التي مرت بها الأمة العربية أولاً وما مرَّ به الحزب كتنظيم سياسي بدأ يتلمس طريقه للصعود والانتشار بين صفوف الجماهير، والحديث هنا هو عن تنظيم قومي ولد لتكون مساحة نشاطه وأهدافه الجغرافية العربية من محيطها إلى خليجها، وهذا حال منتسبيه الذين توزعوا وفق تلك الجغرافية وخارجها وحيثما تواجد العربي ولعل توزع مؤسسي الحزب على بيئات عربية في مغرب الوطن العربي ومشرقه دليل على أنه ولد حزباً عربياً بامتياز أتيح لكل مواطن في أي دولة عربية الانتساب إليه بغض النظر عن لونه أو جنسه أو إثنيته وأصوله.
لقد ولد البعث من حامل مشروع يعبر عن طموحات الملايين من أبناء الأمة العربية حملتها وتضمنتها مبادئه الأساسية وشعاره الخالد أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة مع رؤية واضحة المعالم للدولة العربية المنشودة في طبيعتها وهويتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ما جعل من دستوره مشروعاً محدد العناصر والأركان تعزز بعد ذلك بإضافات مهمة ودليل نظري أقره المؤتمر القومي السادس للحزب عام ١٩٦٣ أي بعيد قيام ثورة آذار ووصول الحزب للسلطة، بعض المنطلقات النظرية تفسر وتقرأ في جوانب منها تحليل ورؤية وفلسفة عملية لبعض ما ورد في الدستور من عناوين ومبادئ أساسية وعامة ومنهاج عمل وقد أغنيت هذه المبادئ والرؤى بإضافتين مهمتين هما خطاب التصحيح للقائد المؤسس حافظ الأسد وخطاب التطوير والتحديث للرفيق الأمين العام للحزب الرئيس بشار الأسد، إضافة لما ورد في بعض المؤتمرات الحزبية الفكرية منها والقومية.
إن نظرة فاحصة ونقدية لتاريخ الحزب النضالي وتجربته في السلطة وخارجها تؤكد جملة من الحقائق التي لا تغيب عن أحد في أي مقاربة موضوعية وغير منحازة، منها أن البعث كان عربي الولادة والنشأة، قومي الانتماء، مركب الأهداف بين السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي، ما جعل مساحة انتشاره ومنتسبيه واسعة ومتنوعه تجمع ما بين القومي الذي قد لا يتحمس لفكرة الاشتراكية كثيراً، وكذلك الاشتراكي الذي ينظر للحزب من منظور اجتماعي طبقي واقتصادي، ويرى في مفهوم العدالة عنواناً أساسياً ومحورياً يدفعه إليه، ولعل هذا التداخل بين الوجداني المتعلق بحلم تحقيق الوحدة العربية والواقعي في إطار مفهوم العدالة الاجتماعية وهوية الحزب الفكرية هو الذي يفسر إلى حد بعيد حالة الصراع والتنافر التي شهدتها قيادات الحزب بعد ثورتي آذار وشباط في سورية والعراق، علماً أن دستور الحزب الذي أُقرَّ في مؤتمره التأسيسي كان حمَّالاً لبعض هذه الأوجه خاصة بعد اندماج الحزب العربي الاشتراكي في حزب البعث مطلع خمسينيات القرن الماضي.
لقد مارس حزب البعث ومنتسبوه النضالين السري والعلني، واحترمت قياداته وأعضاؤه الأنظمة والقوانين السائدة، ودخل اللعبة الديمقراطية وخاض الانتخابات البرلمانية وفاز وخسر وتقبلت قياداته كل النتائج ولم يثنها ذلك عن متابعة النضال والعمل في صفوف الجماهير، وتبني رغباتها والتعبير عن مشاعرها وطموحاتها ولم يقتصر تأثير الحزب أو نشاطه أو أهدافه على منتسبيه وإنما كان هدفه استقطاب الجماهير حول أهدافه ومشروعه السياسي ولم تكن السلطة بالنسبة له إلا وسيلة لتحقيق الأهداف وليست غاية بحد ذاتها من هنا نجد أنه استطاع أن يصل إلى البرلمان ويؤثر في الشارع السياسي ويساهم في تحقيق أول محطة في تاريخ العرب الحديث عام ١٩٥٨ بين سورية ومصر وهو خارج السلطة ما يعني أنه امتلك أكثرية الشارع بأهدافه وسلوك منتسبيه وقياداته واحترم إرادة الجماهير ولا سيما أن الوحدة السورية المصرية التي كان عرابها ورافعتها لم تتم إلا بعد الاستفتاء عليها في سورية ومصر وموافقة البرلمانين السوري والمصري عليها ما أكسبها شرعية شعبية ودستورية وهذا يعني أن ما حدث في ٢٨ أيلول عام ١٩٦١ كان انقلاباً على الشرعية ما استدعى الرد عليه في الثامن من آذار عام ١٩٦٣ بقيام الثورة التي قادتها القوى الوطنية والقومية في سورية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وإقصاء حكومة الانفصال الخارجة عن الشرعية.
لقد استطاع البعث القيام بثورتين تلاحم فيهما المدنيون والعسكريون في سورية والعراق استمرت أولاهما وسقطت الأخرى، ولعل دروس التاريخ تشير إلى أنه لو قيض لثورة العراق قيادات بمستوى قيادة البعث في سورية بعد عام ١٩٧٠ لوجدنا أن حلم الوحدة العربية قد تحقق وتغير المشهد العربي في المنطقة عموماً بشكل كامل وبما يخدم المصلحة العربية العليا ومصلحة جماهير الأمة على وجه العموم.
إن عدم تحقيق هدف الوحدة العربية لا يعني إطلاقاً أنه هدف غير واقعي، ولعل تجربة الوحدة السورية المصرية وغيرها من تجارب تؤكد هذه الحقيقة، إضافة إلى توافر كافة عناصر البناء القومي، وإذا وضعنا هذا جانباً فلا شك أن الظروف التي تواجه الأمة العربية اليوم والتحديات التي يشكلها الإرهاب التكفيري واستهداف الدولة الوطنية وحرب الهويات التي تواجه بلداننا العربية وما أفرزته العولمة من حاجة ماسة للتكتلات الإقليمية العابرة للحدود وكذلك متطلبات الأمن والتنمية تستدعي بالضرورة التفكير الجدي بالتوجه نحو أشكال من الوحدة أو الاتحاد كضرورة وحاجة قبل أن تكون حلماً مشروعاً ولعل في أدبيات البعث وتجربته الفذة وقاماته الفكرية والسياسية ما يجعل من إمكانية تحقيق ذلك أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق. لعل سورية بمكانتها ودورها في مواجهة المشروع الإرهابي التكفيري الصهيوني وحملها لواء العروبة والمقاومة بجدارة وتوفر قيادة تاريخية لها ممثلة بالرفيق الأمين العام لحزب البعث الرئيس بشار الأسد مؤهلة تماماً للقيام بهذا الدور التاريخي.
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com

التاريخ: الأثنين 8-4-2019
رقم العدد : 16951

آخر الأخبار
باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب دوبلانتيس يُحطّم رقمه القياس رعاية طبية وعمليات جراحية مجاناً.. "الصحة" تطلق حملة "أم الشهيد" ليست للفقراء فقط.. "البالة" أسعار تناسب الجميع وبسطاتها تفترش أرصفة طرطوس ماوراء خفايا الأرقام والفساد في اقتصاد الأسد المخلوع؟ بعد ترميمه.. إعادة افتتاح الجامع الكبير في اعزاز بريف حلب الشمالي من شجرة الرمان كانت البداية.. ريم درويش استثمرت أوقات فراغها بمشروع مثمر حالة ضعيفة من عدم الاستقرار الجوي مع ارتفاع في درجات الحرارة غداً إدارة إلكترونية وربط مباشر بالمصارف.. ما سر "الحكومة الرقمية المصغرة"؟ برامج عمل مشتركة مع "أكساد" لتطوير وتنمية الثروة الحيواني