وسط إنجازات الجيش العربي السوري وإعجازاته العظيمة في الحرب على الارهاب، وإفشاله كل المشاريع الأجنبية والاستعمارية التي استهدفت سورية خلال ثماني سنوات من الحرب الإرهابية القاسية، وتصميم أبناء سورية على تحرير كل شبر محتل من أرضها الغالية من رجس الإرهاب والمحتلين الصهاينة وحلفائهم، يستعيد السوريون هذه الأيام بكل الفخر والاعتزاز ذكرى عزيزة وغالية على قلوبهم جميعاً، ففي مثل هذا اليوم الأغرّ عام 1946 سطر أحد أجيال سورية الميامين أروع صفحات البطولة والشجاعة والكفاح بإجبار جحافل فرنسا الدولة العظمى الغازية على الانسحاب والجلاء من هذه الأرض المباركة، وكتابة فجر عربي أصيل من الحرية والاستقلال والسيادة بمداد من التضحيات العظيمة.
فبعد نحو ستة وعشرين عاماً من البطولات والتضحيات والثورات المشتعلة التي فجرها أجدادنا الميامين على امتداد ساحة الوطن، تمكنت سورية من الحصول على استقلالها وتحررت من هذا الوباء الاستعماري الذي حلّ بالوطن العربي مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ لم يكن السوريون قد استكملوا بعد بناء استقلالهم وتحررهم من المستعمر العثماني البغيض حتى جاء الغزاة الفرنسيون ليملؤوا فراغه بأطماع وطموحات استعمارية بعيدة كل البعد عن مبادئ وقيم العدالة والحرية والإخاء والمساواة التي يدعوها، ولكنهم سرعان ما واجهوا ما لم يكن بحسبانهم من مقاومة شرسة ونضال دؤوب من قبل أصحاب الأرض.
لم يكن طريق الاستقلال في سورية سهلاً أو مفروشاً بالورود كما يظن البعض، بل عبّده عشرات آلاف السوريين الأبطال بدمائهم الطاهرة الزكية وتضحياتهم النبيلة، كما لم يكن صونه وحمايته وترسيخه بأقل تكلفة من إنجازه، إذ ما زال أبناء شعبنا الأبيّ المقاوم يواجهون كل محاولات المستعمرين وأعوانهم وأدواتهم النيل من هذا الاستقلال ويدفعون ثمنه مرة تلو المرة مقدمين أغلى التضحيات لكي يحافظوا عليه كاملاً غير منقوص كما صنعه الأجداد.
يشهد التاريخ للسوريين بأنهم كانوا الأكثر إصراراً واستعجالاً (بين أشقائهم العرب) من أجل طرد الاستعمار عن بلدهم ونيل الاستقلال، والتحول إلى بناء مستقبلهم وترسيخ كيان دولتهم ومؤسساتها، فمنذ أن وطأ الغزاة أرض الوطن هبّ شرفاؤه من كل المكونات والطوائف والمناطق لمواجهتهم، فأشعلوا الأرض تحت أقدامهم مفتتحين تاريخاً عربياً جديداً من مقاومة الاحتلال ومقارعته بما تيسر لديهم من أسلحة وأعتدة وخبرات وإمكانات بسيطة، حيث لا وجه للمقارنة بين فرنسا القوة العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وبين دولة صغيرة خرجت قبل سنوات قليلة من ربقة استعمار عثماني مرير لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً له بانحطاطه وقمعه وتخلفه وجهله وقهره وتجويعه للشعوب.
أولى ملاحم الدفاع عن الوطن بدأت بمعركة شرف غير متكافئة في منطقة ميسلون غرب دمشق، عندما واجهت أعداد قليلة من المتطوعين في الجيش بقيادة الشهيد البطل يوسف العظمة جحافل غورو المدججة بكل أنواع السلاح الثقيل والمتطور من طائرات ودبابات ومدافع، ليكتبوا بدمائهم الزكية وتضحياتهم المباركة الصفحة الأولى في سفر الاستقلال المجيد، لتكون أولى رسائل السوريين للمعتدين بأن سورية ستكون مقبرة لأحلامكم وأطماعكم الاستعمارية..!
بعد معركة الشرف الخالدة في ميسلون، اشتعلت الثورات في كل المناطق والمحافظات السورية بقيادة مجاهدين أفذاذ أمثال الشيخ صالح العلي والمجاهد إبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش ومحمد الأشمر وأحمد مريود وغيرهم، ثم تواصلت هذه الثورات بقوة وعزيمة لتتوحد تحت قيادة واحدة وراية واحدة، ملحقة بالفرنسيين أفدح الهزائم والخسائر بالأفراد والعتاد على جبهات عديدة، فتعطل مشروع المستعمر الذي حاول تقسيم سورية إلى دويلات وكيانات صغيرة كي يتمكن من البقاء طويلا وسقطت أحلامه دفعة واحدة، وأذعن بعد سنوات من النضال لإرادة الشعب السوري وبدأ رحلة التنازلات، إلى أن اقتنع مرغماً باستحالة مشروعه ودوام احتلاله، فخرج يجّر أذيال الخيبة والعار، بعد أن ارتكب مجازر دامية وبشعة بحق السوريين، لتكرّ سبحة الهزائم الفرنسية في كل البلاد العربية من تونس والمغرب إلى الجزائر، إذ كان لاستقلال سورية صداه المؤثر في بقية أجزاء الوطن المحتلة لما تمثله وتختزنه تاريخياً في الوجدان القومي العربي.
ورغم إنجاز جلاء المستعمرين عن أرضنا لم يغادر السوريون معارك الشرف والبطولة دفاعاً عن كرامة وطنهم ورمزية استقلالهم وطهر ترابهم، فكانوا حاضرين في كل الميادين والمعارك دفاعاً عن فلسطين التي اغتصبتها الصهيونية العالمية بتواطؤ من القوى الاستعمارية الغربية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، ولأنهم حملوا هموم أمتهم ودافعوا عن قضاياها العادلة، لم يتوقف استهدافهم واستهداف استقلال بلدهم من قبل قوى الشر والعدوان وعملائها وأدواتها في المنطقة والعالم، بحيث كانت سورية تنتقل من مواجهة إلى أخرى لترسم لأمتها طريق الانتصارات بنهج ملؤه التحدي والمواجهة والمقاومة دفاعاً عن الأمة وقضاياها.
وإذ نستعيد اليوم ذكرى الجلاء الأغر لا تزال سورية تواجه على أرضها المباركة مشاريع استعمارية وأطماع وتدخلات خارجية يعبر عنها الكيان الصهيوني تارة والولايات المتحدة الأميركية والغرب تارة أخرى، إضافة للنظام الأخونجي في تركيا الذي لا ينفك ينتقل من مرحلة إلى مرحلة من الاستهداف لأرض سورية وشعبها وقيادتها من خلال دعمه للإرهاب وطرح مشاريع ومخططات مرفوضة جملة وتفصيلاً، في حين كان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر الماضي باعترافه الباطل بسيادة الكيان الصهيوني على الجولان العربي السوري المحتل بمثابة اعتداء جديد على استقلال سورية ومحاولة بائسة لانتقاص هذا الاستقلال عبر تقديم قطعة غالية من أرض سورية لمحتل غاصب خارج نطاق القوانين والمواثيق الدولية، الأمر الذي رفضه أبناء شعبنا على امتداد ساحة الوطن متعهدين باستعادة الجولان من أيدي المحتلين ليكتمل به عرس الجلاء الأغر مهما طال الزمن.
في كل عام ومع تضحيات جيشنا البطل حامي الديار والاستقلال تتجدد معاني وقيم الجلاء المجيد لتظل نبراساً تضيء الطريق للأجيال القادمة، وتلهمهم قيم التضحية والشجاعة وحب الوطن، وتحفزهم على تقديم كل غال وثمين في سبيل الذود عن حياضه وكسر جبروت الطامعين بخيراته، وما يقدمه أبطال جيشنا الباسل في كل مناسبة يؤكد حفاظهم على هذه الأمانة وصونها بالدماء والأرواح.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 17-4-2019
رقم العدد : 16959