عندما يكون الحديث عن المقاومة تستحضر إنجازاتها وانتصاراتها وأعيادها ومناسباتها، واليوم يحتفل جمهور وأبناء المقاومة في لبنان والعالم العربي بعيد المقاومة والتحرير حيث تمكن أبناء المقاومة الوطنية اللبنانية من دحر جيش الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط، فإن أول ما يتبادر للأذهان ويحضر في الوجدان هو ذلك الدور المحوري والفاعل الذي لعبته سورية عبر تاريخها احتضاناً ودعماً لكل أشكال المقاومة السياسية والعسكرية العربية ضد الاحتلال الأجنبي وبالأخص الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وباقي الأراضي العربية المحتلة.
فمنذ حرب تشرين التحريرية المجيدة عام 1973 وخروج الشقيقة مصر من المعركة بصلح منفرد واتفاقية إذعان واستسلام مع الكيان الصهيوني «كامب ديفيد» تحملت سورية بمفردها نيابة عن العرب عبء مقاومة المشاريع والأطماع الصهيونية في المنطقة، وكان لها الفضل الأكبر في دعم واحتضان نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي والوقوف إلى جانب فصائله المقاومة عبر دعم سياسي وعسكري غير محدود بأي سقف، وقد تجلى ذلك باحتضان جيش التحرير الفلسطيني واستضافة العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية على الأراضي السورية، ومد يد العون والمساعدة والتدريب لها على جبهة الجنوب اللبناني، حيث نشط أبناء هذه الفصائل في العمل الفدائي انطلاقا من سورية ولبنان وقاموا بأعمال بطولية داخل الأراضي المحتلة هزّت كيان الاحتلال وأدخلت الرعب في نفوس قياداته ومستوطنيه وجنوده، الأمر الذي انعكس ضغوطاً سياسية واقتصادية على سورية من قبل الغرب الداعم لإسرائيل بسبب إيمانها بهذه القضية العادلة وتبنيها لها وعدم تنازلها عن حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس وعودة لاجئيه إلى أراضيهم ومنازلهم التي استولى عليها الصهاينة الغاصبين.
وانطلاقاً من لبنان وبحكم الوجود الشرعي للجيش العربي السوري هناك اضطلعت سورية بأدوار جديدة في دعم المقاومة الوطنية اللبنانية التي ولدت كنتيجة طبيعية للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فالتحم أبناء الجيش العربي السوري المؤمنين بالمقاومة مع المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين وخاضوا أشرس المعارك والمواجهات مع القوات الإسرائيلية الغازية وأجبروها على التوقف عند تخوم العاصمة بيروت بعد حصارها لأشهر ومن ثم التقهقر جنوباً في مرحلة لاحقة إلى مدينة صيدا ومن ثم إلى جنوب نهر الليطاني في لبنان، لتتواصل بعدها أعمال المقاومة اللبنانية التي قادها حزب الله بوتيرة متسارعة حتى تمكنت في الرابع والعشرين من أيار عام 2000 من هزيمة الجيش الإسرائيلي المحتل وإجباره على التقهقر والانسحاب تاركاً خلفه دباباته المحروقة وجثث عملائه في أول انتصار عربي من نوعه حيث تمكنت مقاومة شعبية مسلحة بالإرادة والتصميم والتضحية وحب الوطن من هزيمة أعتى جيوش المنطقة وأكثرها تسليحاً وتمويلاً ودعماً من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها حول العالم. تشير الكثير من التحليلات والدراسات السياسية التي نشرت في السنوات الأخيرة إلى أن السبب الرئيسي لشن هذه الحرب الارهابية على سورية المستمرة منذ ثماني سنوات هو وقوفها إلى جانب قضية فلسطين ودعمها للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وقد كان محور العدوان على سورية سباقاً وشفافاً في كشف هذه الحقائق والمعطيات، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وعملاؤها فيما يسمى المعارضة السورية أكثر من مرة عن شروطهم لوقف هذه الحرب القذرة وعلى رأس تلك الشروط هو توقف سورية عن دعم المقاومة في فلسطين ولبنان وفك عرى التحالف القائم مع الثورة الإسلامية في إيران ومع حزب الله في لبنان لكن سورية رفضت هذه الشروط الأميركية والصهيونية واستمرت بدعم المقاومة بكل ما تملك وتحملت وزر محاربة الارهاب العالمي إلى جانب حلفائها في محور المقاومة، وها هي الأيام تثبت من جديد أن الخيار الذي انتهجته سورية كان الخيار الصائب، إذ تمكنت بمؤازرة هؤلاء الحلفاء الصادقين من دحر المشروع الإرهابي وهزيمته عن معظم الأراضي السورية واقتلاعه من المناطق التي تسلل إليها شمال شرق لبنان، ولا تزال المعركة مستمرة مع هذا المشروع التكفيري الإجرامي لاستكمال القضاء عليه فيما تبقى من الجغرافيا السورية.
في ذاكرة أحداث المنطقة بعيد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية زيارة وزير الدفاع الأميركي الأسبق كولن باول المشهورة إلى دمشق وطرحه قائمة من الشروط الأميركية على سورية لتجنب هجوم أميركي عليها انطلاقا من العراق وكان على رأسها طرد فصائل المقاومة الفلسطينية من دمشق والتوقف عن دعم حزب الله، ولكن دمشق المؤمنة بالمقاومة طريقا لتحرير أرضها المحتلة واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني والمتمسكة بسيادتها وقرارها المستقل رفضت شروط باول وأسمعته ما يجب أن يسمعه من دمشق قلعة المقاومة في وجه المشاريع والأطماع الأجنبية، ولم يكد يصل باول إلى واشنطن حتى ترجم أبناء الشعب العراقي أصداء الموقف السوري الشجاع فانطلقت أعمال المقاومة في كل أنحاء العراق ضد الاحتلال الأميركي وحلفائه ولم تمض سوى ست سنوات حتى تمكن العراقيون من تلقين الأميركيين درساً جديداً على غرار دروس فيتنام ولبنان فقرروا الانسحاب بعد أن دفعوا أثماناً مادية وبشرية باهظة لم يكشف النقاب عن معظمها، ولا يختلف اثنان في أن التدخل الأميركي في السورية خلال هذه الحرب الارهابية كان نوعاً من الانتقام الأميركي بسبب دعم سورية للمقاومة العراقية، إضافة إلى أنه تدخل يأخذ في الحسبان الهواجس الصهيونية من تعاظم قوة محور المقاومة الذي لا تزال سورية رغم كل ماجرى فيها تشكل واسطة العقد في هذا المحور كأقوى وأمتن حلقاته.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 24-5-2019
الرقم: 16985