في هذا المكان نُشرت لي قبل أسبوعين زاوية تحت عنوان (الإرث المفقود) حول المنمنمات التي عجّت بها المخطوطات العربية الإسلامية و فُقد أكثرها بسبب تدميرها، أو سرقتها، من قبل الجيوش الغازية. وقد أتبعتها الأسبوع الماضي بزاوية حملت عنوان (الإرث المجهول) عن لوحات الفسيفساء، وخاصة تلك التي أقيمت على جدران الجامع الأموي بدمشق، وانتهج فيها الفنان المحلي تقاليد أسلافه من المعماريين والمصورين البارعين.
انتهت زاوية الأسبوع الماضي إلى الحديث عن أوابد وفيرة تكاد تكون مجهولة بالنسبة لمعظمنا مثل: ماري وأوغاريت وإيبلا وتدمر وعين داره والمدن المنسية، ومن بعض ما فيها كنيسة قلب لوزة التي رأت بعض المصادر الغربية قبل وقت قصير أن تصميمها المعماري أساس تصميم كنيسة نوتردام الباريسية. إثر نشر الزاوية وردني تعليق حانق على الرسائل الخاصة – لا أعرف أي صدفة قادت صاحبه ليرى ما كتبته – وقد استهجن بلهجة أقرب إلى السخرية الحديث عن تأثر تصميم كنيسة نوتردام بتصميم كنيسة قلب لوزة، مستنكراً ما اعتبره (ادعاءاتنا الفارغة) عن دورنا في الحضارة الإنسانية.
من جانبي أجد أن الادعاء بما لم ننجزه يتساوى في السوء مع إنكار ما أنجزناه. هناك ما يبرر الإشارة، لا إلى الشخص، وإنما إلى الظاهرة، وأعني، تحديداً، ظاهرة جرأة الجاهل على التنطع للحديث فيما لا يعرف. وكذلك ضرورة الإشارة إلى مصدر الحديث عن الأصول السورية لكنيسة في باريس يعتبرها الفرنسيون درة عاصمتهم، بلفت الانتباه إلى أن هذا الحديث لم يأت على لسان سوري (متعصب) في وسيلة إعلام محلية، وإنما من أقوال باحثين أوربيين نُشرت في أشهر وسائل الإعلام العالمية، وفي المقدمة منها وكالة الصحافة الفرنسية.
تقـع كنيسة قلب لوزة على بعد 50 كم شمالي مدينة إدلب، وهي مسجلة في لائحة التراث العالمي لليونيسكو، ويعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي أي قبل ستمئة سنة من كنيسة نوتردام التي استغرق بناؤها أكثر من قرن. تأثر بناء كنيسة قلب لوزة بإرث فن العمارة السورية القديمة، وسميت بقصر لوزة وأحياناً قلب لوزة نسبة إلى بلدة قلب لوزة الأثرية التي تقوم ضمنها، وشكلت مقصداً للحجاج، كما لزوار دير القديس سمعان العامودي القريب (473 م)، وكانت الصرح الهندسي الذي استوحى منه معماريون كثر بناء كنائس وكاتدرائيات في أوروبا. إذ كان التجار والرهبان والحجاج يتنقلون بكثرة بين هذه المنطقة وأوروبا، فوجدت الهندسة المعمارية هذه طريقها تدريجياً إلى أوروبا، حتى قبل بداية حروب الفرنجة في القرن الثاني عشر، وقد بقيت كنيسة قلب لوزة تستخدم للصلاة والاحتفالات الدينية حتى ذلك الوقت.
وبحكم كون سورية الأرض التي شهدت ولادة المسيحية ومن ثم انتشارها، فقد قامت فيها أولى المباني المسيحية في العالم، ومنها كنيسة قلب لوزة رغم أنه سبقتها عدد من الكنائس التاريخية في مقدمتها كنيسة (دورا أوروبس) في مملكة تدمر على نهر الفرات، والموجودة حالياً في متحف جامعة (يال) بالولايات المتحدة، والعديد من الكنائس ذات المسقط ذاته (البازيليكي) مثل كنيسة القديس سمعان العمودي، ودير الراهب بحيرا في بصرى، وكنيسة إزرع في محافظة درعا. إلا أن كنيسة قلب لوزة تتميز عنها جميعاً بكونها المثل الأقدم للهندسة المعمارية التي تقوم على واجهة مؤلفة من برجين توءمين بنقوش زخرفية دقيقة على جانبي مدخلٍ مُقنطر، كما تُزين الكنيسة من الداخل جدرانٌ مليئةٌ بالزخارف النباتية، محمولة على أقواسٌ كبيرة جداً، تقوم بدورها على عضادات وسطية. وقد أدى هذا الابتكار المعماري إلى انفتاح الجناح الرئيسي الأوسط على الجناحين الجانبيين، وسمح بتشكيل فراغ واسع ومتكامل، ونشوء النمط الروماني المستدير المغاير للنمط الغوطي الحاد.
عادت كنيسة قلب لوزة إلى واجهة الاهتمام العالمي إثر الحريق الذي اندلع في نيسان الماضي في كنيسة نوتردام، فقد تحدثت معظم التقارير الإخبارية في تغطيتها للحدث عن الأصول السورية في تصميم نوتردام، وخاصة الواجهة ذات البرجين، والسقف الخشبي. والتقت عند تأكيد هذه الأصول مؤسسات إعلامية كبيرة مثل السي إن إن ووكالة الصحافة الفرنسية وفرانس 24 وروسيا اليوم.
إلا أن التقرير الأهم، من الناحية العلمية، هو الذي نشرته البي بي سي، وأعده، مُدّعماً بالمخططات والصور، المعماريان السوريان د. إياس شاهين: الأستاذ في كلية العمارة بجامعة دمشق، وتاله الشامي من جامعة دمشق، وهو يمثل مرجعاً ثرياً لهذا الموضوع.
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 18-6-2019
الرقم: 17003