كانت نتائج الحرب العالمية الثانية في أواخر النصف الأول من القرن العشرين المنصرم قد أعلنت انهيار نظام المستعمرات حيث سقطت منظومة التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى، وجرى الاعتراف -عبر مؤتمر يالطة- بحق الشعوب في الحرية وتقرير المصير بالإرادة الوطنية الخالصة حتى يدخل العالم في تاريخ جديد للعلاقات الدولية تتراجع فيه حدّة النزاعات، والحروب، والتوترات الدولية من أجل أن تنتهي أسباب الصدام الدولي، والإقليمي، وينعم المجتمع الإنساني بالأمن والسلم بعد حربين عالميتين طحنتا حضارة البشرية، وأزهقتا أرواح عشرات الملايين من الخلق. وما إن أُعيد تشكيل الأمم المتحدة، وهيكلتها على أساس من هذه المبادئ الأخلاقية حتى وجدنا النظام الليبرالي العالمي يخترق كافة مواثيق الأمم المتحدة، ومعها القانون الدولي الإنساني بالسماح للعصابات الصهيونية باحتلال أرض فلسطين، وبمساعدة رأس النظام الليبرالي المتصدّر الجديد على أثر نتائج الحرب الثانية، ومعه بريطانيا التي كانت تدّعي الدور القيادي للنظام ذاته. ووفق آليات هذا التحوّل السريع في اختراق قيم الحرية، وحق تقرير المصير بدأت العلاقات تشهد الحرب الحقيقية التي تحدّث عنها تشرشل بنهاية الحرب الثانية حين قال: انتهت الحرب الصغرى ضد هتلر لتبدأ الحرب الكبرى مع النظام الشيوعي القادم. وبالفعل عاد الاستعمار بثوبه الجديد، وكشّرت الليبرالية عن أنيابها واتضح للعالم أن التشدّق بالحرية، وبحكم القانون، وبالديمقراطية، وحقوق الإنسان مجرد دعاية رأسمالية تخفي وراءها قوى الاستغلال الدولي، ونهب ثروات الشعوب مطامعها، وعدم احترامها لحقِّ أي شعب بالحياة الكريمة والسيادة.
وقد رأى المجتمع الدولي حالة استقطاب عالمي كامل بين جبهتين: جبهة احترام حقوق الشعوب بحريتها وتقرير مصيرها، وجبهة التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى، وبدأت الحروب الإقليمية التي تشنّها الليبرالية على الشعوب من احتلال فلسطين، إلى العدوان والحرب في شبه الجزيرة الكورية، إلى حرب السويس في مصر بعد تأميم القنال بقرار من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
إلى الحرب على الفيتناميين وحرب التحرير الجزائرية، والعدوان الثلاثي على دول الطوق العربية 1967م. وتواصلت الحروب الإمبريالية على الأمم الأخرى فمازلنا نتذكر كيف دخلت الجيوش الأميركية والأطلسية لتساند كيان العدوان الصهيوني وتمنع العرب ولا سيما سورية من تحرير الأرض التي احتلها الغزاة الصهاينة وإزالة آثار العدوان عام 1973م. وكيف عملت الليبرالية بالزعامة الأميركية على تصعيد حدّة الحرب الباردة بين القطبين الدوليين: النظام الشيوعي العالمي، والنظام الليبرالي العالمي، وتمّـت محاولات كثيرة لعدم تمكين الأمم المتحدة من أن تمارس إدارة عالمية عادلة ونزيهة. ولم تمض برهة من الزمن إلا ويتجدّد التدخل الإمبريالي العدواني في مصائر الأمم المختلفة. ووفقاً لمقتضاه ألم نرَ كيف تدخل القطب الإمبريالي ليحرم العرب من استثمار نتائج حرب تشرين التحريرية عام 1973م التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد؟ وكيف تمّ التصرّف لإنهاء قومية المعركة ضد الكيان الصهيوني، وعدم استخدام البترول العربي كسلاح في المعركة لتحرير فلسطين، والأراضي العربية المحتلة؟ وكيف وقفت قوى الليبرالية العالمية وما زالت تناصر كيان العدوان وتمنع الأمم المتحدة، ومجلس الأمن من تطبيق كافة القرارات الدولية التي تعيد للعرب الفلسطينيين، ولدول الطوق العربية حقوقهم التاريخية المشروعة؟
وحتى العقد التاسع من القرن العشرين والحرب الباردة بين القطبين الدوليين مشتعلةٌ. وحين أدخلت -أي قوى الليبرالية العالمية- العلاقات الدولية في الكذبة الأولى من 1985-1991م أي رياح التغيير والمتغيرات الدولية تحت شعارات: حقوق الإنسان، والدولة القانونية، والديمقراطية، ومحاربة الاستبداد، وإزالة حالة التقاطب الدولي، وحل الأحلاف العسكرية، والاقتصادية لكي يدخل المجتمع الدولي -كما زعموا- حقبة التصالح، والتعاون، والتكامل كانت النتائج بإخراج القطب الشيوعي العالمي الموجود في وسط أوروبا، وشرقها من الخارطة العالمية، وتدمير الدولة السوفييتية التي مثّلت في المؤسسات العالمية الحليف المناصر لشعوب الأرض في نضالها الوطني التحرري. فالنتائج التي حصدتها شعوب الأرض من المتغيرات الدولية الموما إليها ووفق الأهداف الليبرالية أن زال حليف الشعوب المكافحة من الإدارة الدولية لتنفرد أميركا في إدارة العالم بأكاذيبها المعروفة عن الحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. ولقد شهد العالم بانفراد أميركا بالإدارة العالمية أشنع مراحل التسلط في التاريخ على حقوق الأمم، وصار الرؤساء الأميركان في كافة المؤتمرات الدولية يصعّدون من حدّة الإملاء على الزّعامات، العالمية ويهددون بالحروب الصلبة والناعمة، ويُشعرون الحليف قبل الخصم بأنهم لا يقبلون الشراكة العالمية مع أحد في قيادة النظام الدولي، وصاروا يمهّدون لأن يكون نظام دولتهم نموذجاً للنظام الدولي القادم.
بقلم: د. فايز عز الدين
التاريخ: الخميس 4-7-2019
رقم العدد : 17016