بعد أن تحولت النظرة إلى البحار والفواصل المائية بحيث أضحت وسيلة تواصل ونقل بين الشعوب والدول، باعتبارها الوسيلة الأرخص والأوفر والاسرع، فضلا عن اكتشاف ما تحويه من ثروات هائلة، فإن ذلك استوجب قوننتها من قبل المجتمع الدولي لما يتعلق بالحقوق والواجبات والاختصاصات لدول الساحل والدول الأخرى وكذلك تنظيم استخدام البحر في مجال الملاحة والنقل والاستغلال الاقتصادي، فكانت البداية بصياغة 4 اتفاقيات عام 1958 سميت بـ (اتفاقيات جنيف لقانون البحار).
ومع بروز دول العالم الثالث والتي أصبح لها أغلبية عددية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونظراً لأن هذه الدول لم تجد تعبيراً حقيقياً عن مصالحها في اتفاقيات جنيف 1958 فقد قامت بالدعوة إلى إعادة النظر في هذه الاتفاقيات حتى تعبر عن الوضع الجديد، بحيث قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعوة مناقشة الاتفاقية وطالبت اللجنة القانونية عام 1970 بدراسة قانون البحر كمحاولة لإعادة النظر في الاتفاقية، واستمرت اللجنة 10 سنوات في دراسة المسألة حتى خرجت بمشروع عام 1982 تحت مسمى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحر والتي ألغي بموجبها اتفاقيات جنيف، وأصبحت اتفاقية الأمم المتحدة عام 1982 هي القانون الدولي الحاكم للبحار، وقد قسمت البحر إلى عدد من المناطق والمساحات تختلف من حيث سيادة الدولة عليها.
وفي هذا الإطار، اتجهت الأنظار الدولية إلى المضائق البحرية وأهميتها بالنسبة لحركة التجارة والتواصل الدولي، و كأداة للتحكم الاقتصادي خاصة في فترات الحروب والنزاعات ما بين مختلف دول العالم، وقد ارتبط القانون الدولي للمضائق والخلجان – كجزء أساسي من البحر الاقليمي- بالقانون الدولي بالبحار ذاته، ما أدى إلى ظهوره في البداية مع اتفاقية جنيف لعام 1958 ثم اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، وقد صاحب هذا التطور تقدماً موازياً في النظرة إلى المضيق ذاته وأهميته في الملاحة الدولية.
تخضع المضائق الدولية المستخدمة في الملاحة الدولية وغير الخاضعة لاتفاقيات خاصة حاكمة إلى ما يعرف بمبدأ حرية المرور، وهو ما يعني السماح بالمرور الحر للسفن الأجنبية عبر المضيق بصرف النظر عن طبيعة هذا المرور، والبعض يفسر هذه الحرية باعتبارها اخضاع المرور للتنظيم الدولي، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنها تقضي بأنه ليس للدولة الاقليمية أن تعرقل المرور عبر المضيق، ومن ثم فلا يوجد هناك معنى واضح متفق عليه لمبدأ حرية المرور، إلا أنه يمكن أن نرصد بشكل عام وجود عنصرين أساسيين لهذا المبدأ:
العنصر الأول: الالتزام القانوني بالسماح بالمرور الحر للسفن أي عدم وضع أي عقبات أو عراقيل أو موانع قانونية لاستعمال السفن الأجنبية للممر المائي المعني.
العنصر الآخر: يتعلق بالجانب الفني للمرور، من حيث منع وضع المعوقات المادية أمام العبور وتحسين وتطوير الممر المائي والمحافظة على تسهيلات استعماله على النحو الملائم.
إلا أنه لا يمكن أيضا الحديث عن تلك الحرية على إطلاقها دون محاولة تحييدها أو تحجيمها، ومن ثم ضرورة وضع التزامات أخرى على عاتق السفن المارة عبر الممر المائي تتضمن الالتزام بالقواعد القانونية المنظمة له وعدم القيام بأي تصرف من شأنه الاضرار بمصالح وأمن الدولة المشاطئة.
ضمن هذا السياق تطور تنظيم الملاحة في المضائق الدولية مع تطور الاتفاقات والمعاهدات التي يعقدها المجتمع الدولي، بداية من اتفاقية جنيف لقانون البحار عام 1958 والتي أقرت مبدأ حرية المرور للسفن الأجنبية عبر المضائق المستعملة للملاحة الدولية والتي تربط بين جزئين من أعالي البحار.
وفي عام 1973 تم الدعوة إلى عقد مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار، والذي ترجع فكرته الى عام 1967 عندما اقترحت الجمعية العامة للأمم المتحدة مقترحا تقدم به سفير مالطا لإنشاء هيئة لاستثمار قيعان البحار والمحيطات يوكل لها مهمة دراسة ووضع القواعد القانونية الضرورية لاستثمار قيعان منطقة أعالي البحار، والذي وجدت فيه العديد من الدول فرصة سانحة للمطالبة بإعادة النظر في احكام اتفاقية جنيف 1958 لقانون البحار التي لم تشارك في صياغتها، نظرا لخضوعها في تلك الفترة للاستعمار، بالإضافة إلى ذلك كانت الدول تأخذ على القواعد الواردة في هذه الاتفاقية أنها قاصرة عن توفير القواعد القانونية اللازمة للدولة الساحلية التي تمكنها من مكافحة التلوث البحري ومن القضاء على مشكلة الصيد غير المنظم التي تقوم به الأساطيل الأجنبية أمام السواحل الوطنية، ما أسفر عن ظهور اتفاقية جديدة وهي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982.
بصفة عامة يجمع القانون الدولي على ضرورة فتح المضائق أمام حركة الملاحة الدولية شرط عدم مخالفتها قانون الملاحة الدولي، بحيث تؤكد الاتفاقيات المختلفة وأحكام القضاء ذات الصلة بهذا الموضوع بوجوب مرور السفن التجارية عبر المضائق الموصلة بين بحرين عاليين ومن ثم عدم جواز اغلاقها في وجه الملاحة، وذلك تشجيعاً لزيادة حركة التجارة بين الدول وحرصا على مصالح الدول الاقتصادية، ويقسم القانون الدولي المرور في المضائق إلى نوعين:
-الأول وهو نظام المرور البريء: والذي يطبق في المضائق التي تصل البحر الإقليمي لدولة أجنبية بالبحر العالي أو المنطقة الاقتصادية الخالصة، شريطة عدم الدخول في المياه الداخلية.
ويكون المرور بريئا إذا كان لا يضر بسلامة الدولة الساحلية وأمنها، بينما تلتزم الدولة الساحلية بعدم فرض أي شروط من شأنها حرمان السفن الأجنبية من حق المرور البريء أو تعطيل هذا الحق بأي شكل من الأشكال.
-الثاني وهو نظام المرور العابر: وهو يخص المضائق التي تصل بين بحرين عاليين أو منطقتين اقتصاديتين خالصتين، ويعني حرية الملاحة من أجل غرض واحد وهو العبور المتواصل السريع عبر المضيق، ويطبق هذا النوع من المرور في حالة أن يكون المضيق هو الممر الوحيد، بينما إذا كان المضيق ممراً اختيارياً فإنه يكون مروراً بريئاً.
فؤاد الوادي
التاريخ: الثلاثاء 23-7-2019
الرقم: 17031