رغم مرور سنوات أربع على استشهاد العالم الجليل خالد الأسعد فإن الجريمة التي ارتكبها الظلاميون ذلك اليوم الحزين بحق الرجل الكبير، عمراً وقدراً وعلماً، لا يزال مستمراً رجع صداها من المراكز العلمية التاريخية في عواصم الشرق والغرب، التي عرف علماؤها عن قرب خالد الأسعد، وعملوا معه، وبتوجيهه، في حاضرة الشرق الساحرة تدمر.
ولد خالد الأسعد على عتبات عام 1934 في مدينة تدمر، ثم انتقل إلى دمشق التي أكمل فيها دراسته الإعدادية والثانوية والتحق بعدها بقسم التاريخ في جامعة دمشق ليحصل منه على الإجازة في الآداب، وتبعها دبلوم التخصص في التربية. وبسبب عشقه الفطري لمدينته وآثارها، اتجه نحو العمل الأثري، وسنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته بعد نجاحه في مسابقة التعيين لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق عام 1962. وفي مطلع عام 1964 انتقل للعمل في تدمر، حيث عيّن مديراً لآثارها وأميناً لمتحفها، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى عام 2003.
تولى خالد الأسعد تنفيذ الخطة الأثرية الاستثنائية في تدمر، فكانت أعظم ما تحقق من الناحية العمرانية والجمالية والوظيفية، وبخاصة إعادة تأهيل الطريق الطويل كي يؤمن الربط بين مواقع المدينة الأثرية، وقد أشرف العالم الراحل على رفع الأعمدة المتساقطة على جانبي الطريق، وكشف القسم الأكبر منه، كما كشف ساحة المصلبة (التترابيل) التي أعاد بناءها فيما بعد بأعمدتها الستة عشرة الغرانيتية، وقد تابع أعمال الترميم بنجاح وبأقل التكاليف، وكان مشروع إعادة واجهة المسرح وإعداده للقيام بوظيفته الفنية من أصعب المهام التي أنجزها، ومن أبرز المباني العامة التي تم ترميمها، معبد (بل الكبير) ويعود بناؤه للقرن الأول الميلادي، ومعبد (بعلشمين) في الحي الشمالي من المدينة ويعود للقرن الثاني الميلادي، ومعابد غيرها، مثل معبد (اللات) وفيه اكتُشف تمثال أسد اللات، كما أوضح معالم معسكر ديوقلسيان والأسوار، ونبع أفقا الكبريتي، وطال الاهتمام المدافن التدمرية، فعثر على مدافن عدة عائلات، ومما يزيد في أهمية هذه الاكتشافات أن الكثرة الساحقة من المنحوتات التدمرية نراها في هذه المدافن، فبعد تدمير الرومان للمدينة لم يبق من آثار النحت المجسم نماذج كثيرة، ذلك أن أكثرها كان قائماً على حاملات التماثيل في الشوارع والساحات.
عمل خالد الأسعد للاستفادة من الخبرات العالمية في مسعى لم يتوقف لإحياء مدينة تدمر، والكشف عن روائعها، وفي معرض ذكريات عمله مع الأسعد قال (كيوهيدي سايتو) رئيس البعثة اليابانية التي شاركت في الكشف عن المدافن التدمرية: (طرح الأستاذ خالد الأسعد فكرة قدوم بعثة يابانية للعمل في تدمر، عند لقائه الدكتور تاكاياسو هيغوتشي مدير مؤسسة طريق الحرير اليابانية، الذي جاء زائراً إلى تدمر، لتقديم الشكر للسيد الأسعد لسماحه باستعارة بعض القطع الأثرية التدمرية التي تم عرضها في (معرض نارا – طريق الحرير عام 1988). وقد قمت بزيارة تدمر للمرة الأولى في شهر آب عام 1990، وكانت وجهتنا الأولى متحف تدمر من أجل الاستماع إلى توجيهاته واقتراحاته، فاقترح الأسعد علينا العمل في المدافن الجنوبية الشرقية والتي أعطت نتائج علمية باهرة، زاد من قيمتها تعاونه، وموظفيه معنا بشكل دائم، وتجلى ذلك بتقديمه كل أشكال المساعدة الممكنة، ومنها بيت الضيافة المجاور لمعبد بل، للنزول فيه (وكان الفقيد قد أنشأه عام 1966). وقد لاحظنا أن مساعدته لا تقتصر على بعثتنا ولكنها كانت تطول البعثات جميعها التي تعمل في تدمر، التي لقيت نفس الاهتمام والعناية نفسها).
مع العدد الهائل من الإنجازات التي حققها في عمره الثري، ترى ابنته التي تحمل اسم ملكة تدمر العظيمة زنوبيا: (إن من أعظم ما قام به هو ترجمته للنصوص والمخطوطات المكتوبة باللغة الآرامية التدمرية القديمة، وعمله على نشرها بكافة اللغات وتقديمها بكافة المحافل والمؤتمرات والندوات التي شارك بها للتعريف بهذه المدينة العظيمة، وقد بلغ عدد كتبه ومخطوطاته نحو عشرين مؤلفاً، نشرت بخمس لغات، إضافة إلى مجموعة دراسات وأبحاث أثرية وتاريخية حول تدمر وآثارها والمكتشفات الأثرية فيها، نشرها في أعداد من مجلة الحوليات الأثرية السورية، وقدّم مجموعة دراسات تاريخية وفنية مقارنة، في معارض الآثار السورية تتعلق بالقطع الأثرية التدمرية المشاركة في المعارض التي أُقيمت في بولونيا وفرنسا وإيطاليا واليونان واليابان). فيما يشير ابنه المهندس وليد خالد الأسعد إلى إيمان الراحل الذي لا يتزعزع بأهمية حماية المدينة الأعجوبة وصون إرثها الحضاري والتاريخي، والعمل بإخلاص لخدمتها طيلة ما يقارب نصف قرن، قضاه منقّباً ومرمّماً فيها حيث امتزجت قطرات عَرقه ودمائه بترابها وحجارتها، حتى غدا الوجه الأبرز في المدينة، والذي يستطيع تقديم تفاصيل تاريخها وحضارتها بشكل بسيط ومسهب ينقل المتلقي من خلاله إلى عوالم محسوسة تمنح للتاريخ بُعداً شاعريّاً ساحراً.
في حفل تأبينه الأربعيني الذي قدمت فيه السيدة الدكتورة نجاح العطار لأسرة الشهيد وسام الاستحقاق السوري الممنوح له من السيد الرئيس بشار الأسد، قالت السيدة نائب الرئيس موجهة كلامها للشهيد: (أنت تدمر وتدمر أنت.. وكل ذرة رمل في تدمر تشهد على جهودك وما بذلت، تعرفك وتعرفها.. أنت لم تمت، أنت تحيا معنا، في ضمائر مواطنيك وفي ذاكرتهم، بين الأحبة الذين رحلوا عنا وما رحلوا، من الشهداء العظام الذين عطّروا أرضنا وسماءنا بكبير التضحيات..).
لم يقدّم خالد الأسعد، في حياته واستشهاده، نموذجاً للعالم الجليل فحسب، وإنما مثالاً قدوة، وتجربة للمستقبل ثرية وناجحة، في كيفية إحياء المدن التاريخية سواء دمرتها جيوش الطغاة في الماضي، أو قوى الجهل في عصرنا.
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 20-8-2019
الرقم: 17051