ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل يومين خطاباً مهماً تجاهلته وسائل الإعلام الغربية، وأكثر ما يلفت في الخطاب هو اعترافه بأفول نجم الهيمنة الغربية على العالم وسطوع نجم قوى مؤثرة جديدة في سماء المشهد الدولي كروسيا والصين، الأمر الذي يفسر تعمد غياب الخطاب عن وسائل الإعلام الغربية.
وبقدر ما يبدو الخطاب موضوعياً، بقدر ما يبدو أنه استسلام للواقع الدولي ويؤذن ببداية مرحلة جديدة من الانزياحات والمراجعات بغض النظر عن موعد بدايتها، إلا أن مجرد الحديث عن نهاية الحقبة الغربية لجهة السيطرة على القرار الدولي ومن رئيس دولة «عظمى» بحجم فرنسا ذات التاريخ الاستعماري البغيض والأطماع المستمرة بمقدرات وثروات الدول والشعوب في المنطقة والعالم، فهذا بحد ذاته يؤكد أن العالم قد وصل فعلا إلى عتبات تغيير وتحول حقيقي يؤكد ويثبت أن زمن الهيمنة الأميركية والأوروبية قد ولى إلى غير رجعة.
ماكرون ذهب بعيداً في مقاربته الموضوعية لحوامل وقواعد ومعادلات الواقع الدولي الذي شهد تحولات كبيرة أطاحت بكل المعادلات والقواعد التي كانت تحكم وتدير بها الولايات المتحدة ومعها أوروبا العالم، عندما تحدث عن أن محاولات إبعاد روسيا عن المشهد الدولي يعتبر خطأ جسيما، وفي هذا اعتراف صريح بالدور الروسي الكبير المؤثر والفاعل على الساحة الدولية، لاسيما على الساحة السورية على اعتبار أنه خلق نوعاً من التوازن وكسر كل محاولات تطويق القرار والفعل الدولي.
ماكرون أشار إلى أن النظام الدولي أخذ يتغير بصورة غير مسبوقة، وأن التغيرات تجري في جميع المجالات بوتيرة تاريخية، وقال الرئيس الفرنسي الذي استضافت بلاده الأسبوع الماضي قمة مجموعة «السبع الكبار»، في مدينة بياريتز على شاطئ المحيط الأطلسي: «نحن لا شك نعيش حاليا نهاية الهيمنة الغربية على العالم، فكنا معتادين على نظام عالمي منذ القرن الثامن عشر يستند إلى هذه الهيمنة الغربية، ولا شك في أن هذه الهيمنة كانت فرنسية في القرن الثامن عشر بفضل «عصر الأنوار» ــ على حد تعبيره ــ وفي القرن التاسع عشر كانت بريطانيا بفضل الثورة الصناعية، وبصورة عقلانية كانت تلك الهيمنة أمريكية في القرن العشرين، لكن الأمور أخذت في التغير والتقلب بسبب أخطاء الغربيين في بعض الأزمات».
وأضاف ماكرون: «نحن عملنا معا في لحظات تاريخية، كذلك هناك بزوغ قوى جديدة، وهي قوى اقتصادية ليست سياسية بل دول حضارية تأتي لتغير هذا النظام العالمي، وإعادة النظر في النظام الاقتصادي بصورة قوية، ومنها الهند والصين وروسيا، حيث تتميز تلك البلدان بإلهامها الاقتصادي الكبير».
وقال ماكرون إن: (الصين وروسيا اكتسبتا قوة في العالم لأن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة كانت ضعيفة.. أعلنا خطوطا حمراء لكنهم تجاوزوها ولم نرد، وعلموا ذلك..)، وأضاف الرئيس الفرنسي: (لا يمكننا أن نؤسس للمشروع الأوروبي للحضارة الذي نؤمن به، من دون أن نعيد التفكير بعلاقتنا مع روسيا)، مؤكدا أنه لا يجب أن تكون روسيا الحليف (الضعيف) للصين، فروسيا مكانها في أوروبا.
وأشار ماكرون إلى وجوب أن تستطلع فرنسا استراتيجيا سبل هكذا تقارب، لكنه حذر من مغبة إبقاء العلاقات بين البلدين في حالتها السيئة الراهنة، قائلا: (نحن في أوروبا، وفي حال لم نعرف في لحظة ما القيام بشيء مفيد مع روسيا، فإننا سنبقي على توتر عقيم، وستبقى الصراعات المجمدة في كل أنحاء أوروبا، (وستبقى) أوروبا مسرحا لمعركة إستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا، وبالتالي سنبقى نتلقى تداعيات الحرب الباردة على أرضنا».
خطاب ماكرون الذي سماه بـ (خطاب الاعتراف) بنهاية الأحادية القطبية، قد لا يضيف جديدا إلى الواقع المرتسم بتحولاته ومتغيراته الكبرى التي سوف تطيح بكل القواعد التي كانت الدول الاستعمارية تتحكم من خلالها بالمشهد العالمي، لكنه بالتأكيد سوف يشكل دفعا لتطورات وانزياحات مقبلة على المسرح الدولي وبالتوازي يشكل تحطيماً للمعنويات التي لا تزال بعض الدول الاستعمارية تحاول الايحاء بامتلاكها.
فؤاد الوادي
التاريخ: الجمعة 6-9-2019
الرقم: 17067