قصص المغامرات والبطولة، والتي تتحدث عن عوالم ما وراء البحار والجبال، وكهوف الماضي، وغابات الثلج.. وبطل القصة الذي يختصر لنا تجربته من خلال الأحداث التي يمر بها، والصعاب التي يواجهها، كل ذلك كان عالماً سحرياً ينفتح أمامنا مع كل صفحة نقلّبها من الكتاب لندخل إليه بملء الدهشة التي تلهب خيالنا، ونحن نتماهى مع أبطال القصص، ونطل على كل تلك الأماكن من وراء ستار الكلمات.. أما التجربة الحياتية التي تسير بها الأحداث فهي التي نتعلم منها، والقيم التربوية التي ترد في سياق النص تصل إلى قناعاتنا، وهي تتوافق مع ما يحرص الأهل إلى جانب المدرسة على غرسها في نفوس أبنائهم.. فالقصة تظل دوماً وسيلة تربوية، تعليمية تسهم في غرس القيم الإيجابية إلى جانب إثارة الخيال، وتطوير المدارك، وبث المعارف.
هكذا كان حالنا عندما كنا صغاراً، ولم يكن يتوافر لنا أكثر من كتاب نقرؤه، وشاشة تلفاز نتابع من خلالها ما خصص لأعمارنا الغضة آنذاك، وشاشة رحبة في دور السينما نتردد إليها بين حين وآخر.. ونحن نسير مع تطور التقنية في كل ما تأتي لنا به من جديد، كذلك كانت تجاربنا التي لا تخرج عما هو متاح لنا لنشاهده، أو نسمع عنه، أو نتشاركه مع أقراننا.
أما الآن فقد دخلت متغيرات كثيرة جعلت من التجربة الحياتية عند مَنْ جاء بعدنا من الأجيال أكثر عمقاً، واتساعاً، وربما نضجاً حتى خُيل لبعضنا أن هذه الأجيال هي أكثر ذكاءً، وقدرة على الفهم، والاستيعاب.. إلا أن حقيقة الأمر ليست كذلك.. فوسائل التواصل بما تستطيع أن تخلقه من جسور بين الأفراد، وما أصبح متاحاً من معارف شتى، وعلوم من خلال شبكة المعلومات، وما وصلت إليه تقنيات الذكاء الصناعي، كل ذلك وأكثر ما جعل من مشاركة خبرات الآخرين وتجاربهم عتبة جديدة لاكتساب معارف لم تكن متاحة قبل عهد الثورة الرقمية.
فما بالنا إذا كانت مشاركة التجربة، والخبرة يحصل عليها الأولاد والبنات في أعمار صغيرة، وهي لا تقتصر على الأفراد من المحيط الذي يعيشون فيه بل تتعدى الى أبعد نقطة تصل إليها وسائل التواصل، وإلى مَنْ تفصلهم عنهم ثقافات تختلف عن ثقافتهم، وبيئات جغرافية ليست مما يعرفون.. فإذا بما هو جديد يدخل إلى عالمهم ليضيف إليه بالتأكيد.
لقد ساعدت تلك المواقع الالكترونية التي تُعرض عليها الأخبار الشخصية إلى جانب الصور، و(الفيديوهات) القصيرة على اطلاع أي أحد من الطرف الآخر على تجربة مَنْ زود الموقع بالصورة، والخبر.. ليلتقط منها معلومة ما، أو يعرف من خلالها عن أمر جديد ما كان ليطلع عليه، أو يسمع عنه لولا هذه الوسائط الحديثة.
إن مشاركة (الفيديوهات) الحية سواء أكانت عائلية، أم في إطار مناسبة ما، أو حدث كبير، أو غير مألوف تعتبر بحد ذاتها عتبة جديدة من التجربة عندما يشعر من يشاهدها أنه داخل الحدث، ويسير مع تفاصيله التي لا يتوقع أين ستصل به، فيكون التأثير أكبر، وكذلك التأثر عند الاطلاع على أحداث، ومشاهدات قادت نفسها بنفسها إلى مَنْ شاهدها وما كان ليبحث عنها، أو يعلم بها.
بل كيف سيكون التفاعل مع مشاهدة حية لمن يطارد إعصاراً مثلاً، وينقله بالصوت، والصورة.. وربما سحبته دوامة عين الإعصار إليها ليشهد المتفرج على نهاية مَنْ لم يتوقع مصيره، وهو مأخوذ بمغامرة التصوير، والتوثيق، والمنافسة للحصول على أعلى نسب مشاهدة على مواقع التواصل ليصبح نجمها.. تلك النجومية الزائفة التي قد تكلفه حياته؟
صحيح أن السينما، والأفلام الوثائقية استطاعت أن تنقل إلينا بالصورة مشاهد مماثلة إلا أن البث الحي له مسار آخر من حيث الإثارة، والمغامرة، وتشكيل الوعي بالتجربة، وكأنها الجريمة الحية التي تسمح بالنظر إليها.
إن هذا المتغير الجديد، والمهم بآن معاً ألا وهو شبكة التواصل قد سمح للجميع بأن يشاركوا تجارب الحياة على تنوعها، وتباينها مع أناس من مختلف الأعمار، والعقليات، والإمكانيات.. فما عادت الآفاق ضيقة، ولا مساحات الحوار محدودة، بل إن إشراك الآخرين في بعض التجارب قد تكون له نتائج إيجابية بالنصح، والتوجيه، والإرشاد.. ولكن.. دون أن نغمض العين عن سلبيات بات الجميع يعرفها.. ودون أن ننسى أن هذا الجديد قد دخل أيضاً إلى حقل التربية، إذ بعد أن كانت تربية الأبناء تسير باتجاه متوافق، ومتناغم ما بين البيت، والمدرسة، والمؤسسات الثقافية، والجهات الإعلامية، وحتى الشارع الذي يستنكر أمراً ما، أو يشجع عليه، نجد الآن أن المسارات قد تباعدت بسبب ما هو متاح الاطلاع عليه عبر شبكة المعلومات، وبين ما يتوجه إليه المعلم في المدرسة، أو الأهل في البيت، أو الخطاب الثقافي عموماً أياً كان مصدره.
كل هذا مما يُراكِم تجربة الأجيال الجديدة، ويجعلها تدخل إلى حياة الرشد باكراً، وربما قبل الأوان.. فهل حان الوقت لنغير نظرتنا تجاه أمور كثيرة جاءت بها أزمان جديدة لنعيد ترتيب المشهد، والأولويات بما هو مسموح، وما يجب أن يكون ممنوعاً، أو محظوراً؟
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 6-9-2019
الرقم: 17067