قبل أن تضع الحرب الإرهابية على بلدنا أوزارها، ونصبح قادرين على إعلان النصر الميداني على حلف العدوان ثمة ما يستدعي منا التوقف عنده نظراً لارتباط النصر بالحياة الوطنية الكاملة للسوريين أنفسهم الذين قدّموا خلال السنوات الثماني ما سيبقى على قيود الدراسات النفسية، والاجتماعية، والوطنية لشعب تحالف عليه أكثر من ثمانين دولة وبقي يملك إرادة المواجهة وعناصر الصمود، وها هو في الفرصة الأخيرة للنصر.
وعليه فالحديث عن وطنية شعبنا شيء، واحتياجاته المادية والمعنوية شيء آخر، وعبر معادلات داخلية ساقتها ظروف الحرب على الإرهاب رأينا أن أزمة البلد اقتضت مستدعيات متنوعة منها ما يتصل بطبيعة المهام الوطنية في ميادين الحرب الوطنية العادلة، ومنها ما يمكن أن نمسك بزمامه ونحن نوجّه الدّفة الوطنية في زمن التصدي لثقل إقليمي، ودولي خطط لكي يخترق حياتنا، ويغير ثوابتنا، ويفكّك عرانا، ويحطم دولتنا. وبين هذين الحدّين من العمل تواصلت المعارك الميدانية على سيرورتها الواجبة لأن مراحل التحول الوطني التي نتوخّاها في سورية لن تتحقق على صورتها المنشودة ما دامت الحرب الإرهابية علينا قائمة، وداعموها ما زالوا يتواجدون على أرضنا محققين المساندة الصريحة لهؤلاء الذين أتوا بهم من أربع جهات الأرض. وحين نقول: إن معركتنا ضد الإرهاب على مشارف النصر فإن هذا يستولد معادلته الجديدة في الوطن المنتصر تلك التي لا تنتظر القادم الوطني إلى الشراكة عبر نسق يتحرك بآليات صار فيها من الرّتابة ما لا ينتظر منها أي مخرج وطني مفيد، بل لا بد أن تُكتشف آليات التجاذب الوطني بما يفتح الفضاء الواسع لكل من يمتلك القدرة على نفع الوطن الذي سيعيش حالة إعادة بناء وإعمار تحتاج لخبراء الوطن والناس. والمساهمة في الحقول الوطنية صحيح أنها تقع بين منهجي: الواجب، والحقوق بحيث تتاح الفرصة للنخب المدعوة للمشاركة في نصر الوطن، وإعادة إنتاجه وطناً لجميع أفراده؛ فوطن الجميع ليس شعاراً نظرياً بمقدار ما هو حقائق ملموسة في الواقع والوقائع الدستورية والتشريعية التي تجسد نماذج الحياة الوطنية المطروحة في النظر، والمدروكة في العمل.
والمصداقية هنا سيدة الموقف إذ من المستحسن أن تتطابق مناهج التفكير في أسلوب تحريك الدولة والمجتمع مع السلوك الملموس في الإرادة، وتوجيه المواطنين، فالإدارة المتنوعة في الحقول الحكومية، أو الشعبية، أو الوطنية بوجه عام تتطلب العارفين بطبيعتها، وطرائقها، ووسائط التأثير والإنتاجية فيها وعبرها، وهنا يبرز الفرق الكبير في هذه المسألة بين المسؤولية، والامتياز ففي الوطن الخارج من حرب كونية عليه ليس لديه فسحة وطنية لمن يتصرفون بعكس مشروع الدولة، وأحلام المواطن.
وإذا كانت تعالج ملاحظات المواطنين بالمزيد من التجاهل وإدارة الظهر والتسطيح في فهم القضايا العامة التي تتعلق بالوجود المنتصر، والدخول إلى البيئة الواعدة بمستقبل للجميع فإن الشراكة الوطنية المبحوث عنها لن تشهد العناصر المعنوية اللازمة لكي يكتسبها الوطن، ويكتسب منها ربما في أعقاب الحروب أن يفرض الواقع إلى حد محدود هذا الحال أو ذاك، لكن العودة السريعة إلى مقتضيات الوطن هي التي تحمي الوعي المطلوب لجماهير الشراكة الوطنية فالشراكة معنى كامل ومتكامل من التفكير المشترك، والتبنّي المشترك، والتطبيق المشترك.
إن أهم معادلة يحتاجها وطننا اليوم أن نُفعّلَ مؤسسات الدولة العميقة، وأن تتلاءم اللوائح الداخلية للعمل فيها مع بنية المشروع الوطني لما بعد الانتصار، وحين تتم المراجعة في هذا الموضوع يُفترض ألا تتعمق البيروقراطية بمقدار ما تتعمق الرغبة في الإنجاز السريع، والتنمية المطلوبة لأننا ومن متابعات لبعض التوجهات التطويرية في الإدارة رأينا المشرّع يتحدّث عن فتح الأطر المركزية باتجاه دخول المزيد من اللامركزية، ومع ذلك تبقى التعليمات لأصحاب القرار أهم من التوجهات التي تم الإعلان عنها.
إن بلدنا الذي واجه الحرب الإرهابية بهذه الضراوة، وقدّم فيها الأضاحي التي ستبقى منارات للأجيال والتاريخ يحلم في التوجهات الجديدة في إعادة إنتاج الوعي الوطني أن يتم البحث عن التجربة التي تتحرك بالناس من حالٍ إلى حالٍ أفضل، وأن يكون الوطن هو بوصلة التوجه، وقد كفانا في تاريخنا تفضيل المقرّب على التجربة، وكم اعتمدنا – في التقريب والتبعيد- على الرأي المعتمد على الهوى أكثر من اعتماده على الصدق والحق والاختصاص. وكفانا ممن أعطيناهم كل ما يمكن ولم يعطوا لنا إلا المزيد من ممارسة الزعامة علينا، وكم كررها السيد الرئيس بأننا نبحث عن عقلية الدولة، وليس عن عقلية الزعامة.
واليوم حين يفترض- من وجهة نظر حلف العدوان علينا- أن نقبل كسوريين بالصيغ الدستورية التي سوف يحققون فيها بالسلم ما لم يستطيعوا تحقيقه في الحرب فإن الجواب الوطني للسوريين بأنهم وحدهم يملكون حق مناقشة دستورهم، وحق اعتماده ولا يرضون بأن يشرّع لهم الخارج ما لا يتوافق مع أمانيهم في الداخل، وهنا وطن للجميع يتعاون على إنجاز نصره الجميع، ويضع دستوره الجميع، وبهذا تتجسّد الشراكة الحقيقية بمعالمها الوطنية المخلصة. فالشراكة التزام، ومصالح الشعب العليا غاية كل التزام وهدف. واستقلال سورية وسيادتها، على أرضها هدف لا يعلوه هدف.
والواضح في الحالة السورية الراهنة أن الأطراف الإقليمية التي فشل مشروع الوكالة فيها بتدمير الدولة السورية ستحاول فرض إرادتها حتى يتصرف من اختيروا في لجنة مناقشة الدستور من لدنها بما يفرض أجنداتها، ويبرر دعمها للإرهاب ويحقق خدمتها التي تعهدت بها للكيان الصهيوني ولداعميه ولداعمة الإرهاب أميركا. ووفقاً لمقتضاه فإن السوريين اليوم مدعوون للمزيد من التلاقي والتداول حول مستقبل بلدهم، وتحرير أرضها من الوجود الإرهابي، والأجنبي، وآليات التلاقي كثيرة، ومتعددة بتعدد ساحات، ومساحات الوطن ففي المؤسسات السياسية تحسن ورشات العمل اليوم لدعم مفاهيم الشراكة الوطنية المخلصة لوطن الجميع.
وفي المنظمات، والنقابات، وجمعيات هيئات المجتمع الأهلي وفي المؤسسات العلمية، والتربوية، وفي الإعلام الوطني يُستحسن أيضاً أن يتّسع فضاء العمل المشترك وصيغ التدعيم للموقف المشترك للسوريين في الداخل لكون حراكهم هذا هو الذي يحدد أطر مناقشة الدستور الحالي، أو ما يتم الرضى عنه في التوجهات الجديدة.
نعم سيبقى الدستور من خصوصيتنا، وصناعتنا نحن الشعب على الأرض السورية، ومن يرتهن للخارج ويمارس شراكة وهمية معنا فليس له بيننا ونحن نتصدى لسياسات، وممارسات الدول المعتدية بإرهابها علينا، وما زلنا نفرّق بين الشريك الوطني المخلص لنصر الوطن وإعادة بنائه وإعماره، والذي ارتهن إلى الخارج وما زال يتنفّس من رئته.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 14-10-2019
الرقم: 17097