بقلم: إيلف شفق
ينظر إلى شارع الفاتح باعتباره من أكثر الأحياء المحافظة في اسطنبول، وعلى باب إحدى الشقق السكنية في المنطقة شوهدت ورقة ملصقة كتب عليها: «احذروا! ثمة سيانيد في الداخل، اتصلوا بالشرطة ولا تدخلوا المنزل».
ومن الواضح بأن الشخص الذي كتب هذه الورقة كان يهدف إلى حماية الجوار من المادة السامة, وعندما وصلت عناصر الشرطة عثروا على أربع جثث لرجلين وامرأتين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والأربعين والستين عاماً، وينتمي الموتى إلى ذات العائلة التي أقامت في حي يتسكينز منذ عقود عدة. ووفقاً لثلة من الأصدقاء فإن الأشقاء كانوا يعيشون في بطالة وفقر مدقع، إذ لم يكن من بينهم سوى شقيقة واحدة تعمل مدرسة لمادة الموسيقا تبذل قصارى جهدها لتسديد ما يترتب على العائلة من التزامات للدائنين.
أما بقية أفراد هذه العائلة فقد كانوا بحالة من الاكتئاب والقلق الناجم عن عدم تمكنهم من العثور على عمل يغطي الديون المتراكمة يوماً إثر يوم.
وفي خضم هذا الواقع، قال صاحب مكتبة في الحي يعرف العائلة منذ زمن طويل: «إنهم أشخاص لطيفون، وقد فعلوا ما فعلوه نتيجة ما يعانونه من فقر مدقع، ولم تمض سوى ساعات قليلة حتى أصبحت الجثث في المشرحة. أما بالنسبة للمنزل فقد تبين بأن شركة الكهرباء عمدت إلى قطع التيار الكهربائي عنه منذ أمد جراء عدم دفع الفواتير المترتبة على مدى عدة أشهر.
عملية الانتحار التي قامت بها العائلة برمتها ولدت موجة نقاش وحوارات على امتداد المجتمع التركي. وعلى غرار القضايا الأخرى، فقد جرى تسييسها بصورة مباشرة وإتخامها بنظريات المؤامرة.
وفي الواقع، فقد ارتفعت أسعار الكهرباء في تركيا بنسبة عشرة أضعاف، إذ إنها في هذا العام فقط قفزت بنسبة 57%. كما ارتفعت نسبة الشباب العاطلين عن العمل لتبلغ 27%. بيد أن الأصوات الموالية للحكومة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فندت أي علاقة بين عمليات الانتحار والفقر والبطالة متهمة الليبراليين والديمقراطيين بالتلاعب بآراء الشعب والإساءة لسمعة تركيا في العالم.
وقد أعرب أحد الصحفيين في جريدة «الصباح» اليومية عن تذمره من الحملة التي تقودها أحزاب المعارضة وبي بي سي التركية التي تشير إلى العلاقة بين حالات الانتحار والوضع الاقتصادي المتردي.
قال نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي: «إنهم يقولون بأن عملية الانتحار كانت جراء الجوع، لكن ذلك ليس صحيحاً البتة، فليس لدينا معلومات أن الموت كان نتيجة الفقر». بالإضافة إلى ذلك، رأت الصحيفة الإسلامية المؤيدة للحكومة «يني أكيت» بأن الكاتب «ريتشارك داوكنز» كان السبب في إنهاء الأشقاء لحياتهم ذلك لأنه عُثر على كتاب «وهم الرب» على أحد الرفوف في الشقة وجاء عنوان المقالة على النحو التالي: «كتاب ملحد يتسبب بانتحار أربعة أشخاص».
وفي اليوم التالي عثر على عائلة متوفية في منزلها الواقع في انطاليا اُشتبه بتناولهم جرعة سائدة من مادة سامة، إذ شوهد طفلان أحدهما في التاسعة والثاني في الخامسة من العمر في غرفة الجلوس يمسكان بأيدي بعضهما البعض، وتبين بأن والد الطفلين كان عاطلاً عن العمل منذ فترة طويلة، وقد كتب ورقة شرح بها الصعوبات التي كانت تواجهه. وفي هذه المرة لم تلق وسائل الإعلام المناصرة للحكومة اللوم على الكتب التي تقرؤها هذه العائلة. لكن يبدو أن ثمة اقتراحات بفرض حظر على بيع السيانيد السام مدة عدة أشهر على الأقل.
منذ عام 2012 ثمة تزايد ملحوظ في نسب الانتحار في تركيا، البلد الذي يعد الانتحار ذنباً كبيراً. ووفقاً لإحصائيات رسمية نشرت عام 2018 فقد بلغ عدد المنتحرين 3061 شخصاً. وفي الوقت الحالي بلغت نسبة عمليات الانتحار ثمانية أشخاص في اليوم، علاوة عن العديد من الأشخاص الذين يحاولون ويفشلون في القيام بها. وفي هذا الشهر رفع «أمير خطاب»، اللاجئ السوري، غطاء فتحة الصرف الصحي في شارع فرعي في اسطنبول وقفز إلى الأسفل منهياً حياته بهذه الطريقة وقد سجلت عدسات الكاميرات الأمنية القريبة عملية انتحاره.
لا ريب أن عملية الانتحار محفوفة بالصعوبة والحساسية، لكننا لا نعلم تماماً السبب الذي يدفع الأشخاص لإنهاء حياتهم، بيد أنه في دولة تفتقر لحرية التعبير يصبح إجراء نقاش معمق حول أي قضية أمراً مرفوضاً، فردود الأفعال على النقاشات يمكن نعتها -على الأقل- بأنها مثيرة للاشمئزاز الأمر الذي بدا جلياً بعد الصدمة الأولى لوفاة الأشقاء الأربعة إذ تبتعها تغطية قضائية مسيّسة جرى بها توجيه الاتهام للضحايا ووصمهم بأوصاف مخزية، إذ ينظر للانتحار على أنه تمرد وتحد للسلطات والنظام القائم.
ينظر إلى منتقدي الظروف الاقتصادية -الاجتماعية الناجمة عن التزايد الدراماتيكي في حالات الانتحار بأنهم «خونة ويضمرون أجندة خفية». وفي الوقت الراهن، ثمة حوارات بشأن إصدار أنقرة لقوانين عقابية ضد الأكاديميين والاقتصاديين الذين يدلون بتنبؤات تشاؤمية تتعلق بالوضع الاقتصادي في تركيا.
وفي هذا السياق، خضع اثنان من مراسلي بلومبيرغ للمحاكمة بتهمة نشر «معلومات زائفة» والسعي لتخريب النظام المالي نتيجة ما تحويه مقالاتهم من أفكار ومعلومات. كما اُستدعي 36 شخصاً للمثول أمام المحاكم جراء نشرهم نكاث على وسائل التواصل الاجتماعي تتعلق بانهيار الليرة التركية.
يُدفن العديد من ضحايا الانتحار في تركيا في مقبرة تشامبنيونلس في كيليس الواقعة في ضواحي اسطنبول، ومعظم هذه القبور يُكتب عليها رقم فقط دون نصب الشاهدة. وفي البداية كان الأشقاء الأربعة في عائلة يتسكينز سيدفنون هناك أيضاً ولاسيما أن أصدقاءهم يفتقرون للسلطة القانونية للقيام بمراسم دفن ملائمة، كما لم يتمكن أقاربهم من القيام بتلك المراسم، لكن بعد تناول الإعلام لهذا الأمر بشكل مكثف تم الإذن بعدم دفن الأشقاء الأربعة في مقبرة تشامبنيونلس باعتبارهم مجهولي الهوية بل سيكون لهم شاهدة على قبورهم.
عندما نتأمل ما يجري من تدهور وبطالة وفقر فإننا نفكر أولاً بأعداد المنتحرين فكل رقم يمثل قصة واقعية لشخص ما.
إذ إن الأزمة المالية الحالية والوضع السياسي غير المستقر ينعكس سلباً على نظرة الأشخاص ليس للزمن الحاضر فحسب بل لآمالهم بمستقبل أفضل. وثمة أمر من الأهمية بمكان التطرق إليه رغم ندرة الحديث عنه ألا وهو إهانة كرامة الإنسان، ففي كل مكان وزمان تنهار به الديمقراطية وحرية التعبير والتنوع والتعددية، فإن قيمة الإنسان تُسلب منه. والسؤال الذي يتعين علينا طرحه في هذا السياق: ماذا سيحدث للنسيج الاجتماعي عندما تهان كرامة الإنسان إثر انهيار الديمقراطية؟
الغارديان
ترجمة ليندا سكوتي
التاريخ: الجمعة 15-11-2019
الرقم: 17123