حتماً.. لم يعد المطر ذاك الحرير النازل من أنامل الغيم ليلامس النوافذ ويوقظ العشاق.
ولم تعد خيوط المطر تشبه الكلام المكتوب على الأرض كي يوقظ غافلات الاخضرار. وهو -أقصد المطر-، لم أعد أكتب عنه بدهشة وهو ينهمر على الأسطح ويترك صوته كرجع الصدى البعيد، فيوحي لي بقصيدة عن الفراق أو الوداع مع لهفة عاشقين واقفين تحت المطر وهما لا يشعران به.. ولم يعد المطر يذكرني بفيروز حين غنت للمنتظرين تحت المطر (كان في ناس ع المفرق تنطر ناس، وتشتي الدني)
وهو – أي المطر يكاد يغيب بين زحام الصور والمشاهد والكلمات ولم يعد يأخذني إلى أغنية – أذينه العلي – يا مطر انزل عليها.. يا مطر بوّس عينيها – وللحقيقة كان المطر الغزير يعيدني إلى قريتي إلى – الوكف – وإلى النهر الذي يفيض وهو يهدر حاملاً معه حكايات رحلة الصيف والشتاء من برد وانقطاع عن العالم، حين يحول القرى إلى جزر معزولة عن بعضها.. يحيط بها الماء الأبيض (المحوّر بالطمي) الذي يرميه على الضفاف.
يبدو أن المطر اليوم – مثل كل الأشياء.. ومثل كل الناس – أصابته التحولات التي حدثت وجدت على الكون وبالأخص على سورية.. فلم يبق شيء على حاله.. ولم يظل حال على حال.. انمحت صور ودخلت صور جديدة، جغرافية ومناخية، معرفية وثقافية، صار المطر جزءاً من هذا الكون المتحول.. ولكن ليست كل التحولات تسير إلى الأفضل.. بل يحدث العكس.. وهذا ما يحدث الآن. ربما هو خراب البيئة.. وربما الحرب.. الحرب الضروس غيرتنا وغيرت المطر، فصار يوم المطر يوماً مقلقاً مزعجاً، يدعو إلى الاستنفار في كثير من الحالات.. فما إن ينزل المطر حتى تنقطع الكهرباء.. ثم تأتي بعد قليل.. ثم تنقطع.. وهكذا قد تمر الساعات على هذه الحال.. وقد لا تأتي.. ويكون هذا أجدى وأفضل كي يعتاد المرء على الصبر والانتظار ويظل قابعاً أمام نفسه ينقيها (من الغضب الساطع) الذي يتلف النفس. وإذا كان المطر في الماضي يؤدي إلى فيضان الأنهار وغسل الطبيعة والأشجار، فهو اليوم يؤدي إلى فيضان الزبالة والقاذورات جارفاً معه – كل شيء – ليرميه في الشوارع وعلى الأرصفة مكوناً لوحة مخيفة، تختلط الألوان والأكياس والأشلاء والروائح ويصعب التنقل أو السير على الأقدام.
أما في الريف؟ فعلينا أن نسلم أنه لم يعد يوجد ريف بالمعنى المتعارف عليه للاسم.. فالريف بيوت متفرقة، منتشرة بشكل عشوائي على الطرقات وفي الحقول والمروج والمزارع.. وكل بيت له (قمامته وأكياسه السوداء) التي تنفلش وتمشي وحدها على ضفاف الطرقات والأنهار والغابات وعلى منعطفات الساحات، ثم تتجمع في قنوات الري أو في قاع الأنهار، حيث يبدأ المطر.. المطر الذي يذيب ويجرف ويجعل المنظر مفزعاً وخطراً تفوح منه الروائح، وتتلاشى نضارة الريف ونقاوته، وتتحول المروج التي كنا نتغنى بها إلى أكوام سوداء وأكياس كأنها الأشباح تركن في الحفر المنتشرة على الطرقات الضيقة، الخطرة، وخاصة عندما يبدأ المطر بالحفر وجرف الضفاف الترابية المتآكلة.
والمطر.. ليس كما كان المطر الذي أحببناه وكتب عنه السياب أنشودة المطر.. بل المطر اليوم قد (يحرن) ويرفض النزول من عليائه.. فيكون القحط والجفاف وموت الزرع.. وقد ينزل شحيحاً.. بخيلاً.. لا يفجر الاخضرار ولا النماء، بل يهرق أمطاره الحمضية المشبعة بكل أنواع الغازات والعوادم الملوثة والضارة، أما إذا نزل مدراراً فينزل قاسياً، غاضباً فلا تنفع معه أغاني فيروز ولا أغاني أذينة ولا أنشودة المطر، ويشكل خطراً على الناس وخاصة الفقراء الذين يسكنون منازل عشوائية غير مجهزة وغير مستعدة لغضب المطر، فيدمر الأشجار والمحاصيل والجسور ويغير وجه المكان، فيخرج علينا وجه آخر، وجه جديد، كامد، حزين، بردان، كأنما ينتقم من البشر الذين لوثوا الهواء والماء وخربوا الطبيعة ووصلوا بجنونهم إلى الفضاء.
لكن.. يظل المطر يذكرنا بالشهداء الذين رووا الأرض بدمهم وناموا بين حبات المطر.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 11 – 12-2019
رقم العدد : 17143