الثورة-أنيسة عبود:
كأني بالناس الذين يقفون وراء نوافذ بيوتهم وهم يتأملون الشارع الفارغ الذي خلا من كل مظاهر الحياة (هل من جدوى)؟
ملايين البشر محشورة خلف الأبواب ترتدي الدروع الواقية من عدو لا يرى ولا يمكن التنبه لحركته ولا لدروبه.. إذ غير معروف كيف سيتجه ومن أين يدخل, من الباب, أم من النوافذ أم من الأصحاب؟ وهل هناك مع كل هذا التأهب من جدوى؟
إن العقل البشري -على الرغم من تطوره ومن ترساناته النووية والعلمية – يقف عاجزاً مستسلماً أمام فيروس لا يرى حتى بالمجهر، فماذا يحدث؟
ومتى ينتهي؟ ومتى يخرج الناس إلى الشوارع والمعامل والحقول ليعيدوا دورة الحياة من جديد تاركين ذاكرة مملوءة بوسواس وهلع – الكورونا.
غير أن لهذه الكورونا فائدة وحيدة في عالم اليوم الذي تقوده وتهيمن عليه منظومة الدول الغربية المستكبرة المتعالية بأساطيلها وجيوشها وقدراتها المالية والعلمية الهائلة، التي تتحكم بالعالم النامي، وتضع الخطط لحياة الشعوب ولطريقة عيشها وللأسلوب الذي تستخرج به ثرواتها وتحدد من تصادق ومن تقف على العداء معه, وبالتالي لم تفارق هذه الدول المستكبرة روح المستعمر القديم المتجدد كما يتجدد الكورنا ويفتك بالبشر.
من هنا تأتي فائدة الكورونا القاتل، بأن حجمت هذه الدول الاستعمارية ووضعت حداً لغطرستها، حين وقفت عاجزة عن مجابهة فيروس يصيب البشرية كلها وليس الشعوب العربية والنامية ومن تغضب عليه الإمبريالية. ولو كان الأمر بيد ترامب وحاشيته لوجه هذا (الفيروس القاتل) إلى دول العالم التي تنافسه والدول التي لا تطيعه، ولا تسير في ركبه وركب الصهاينة كي تخلو له الأرض ويعيث فيها فساداً وما محاولة الحصول على -لقاح أو ترياق- لهذا المرض واحتكاره إلا لتنفيذ خطة القتل بالعالم أجمع.
هذه هي الديمقراطية الغربية، وهذه هي الإنسانية والحرية والأخلاق الغربية.
لقد أثبت الغرب بدخول كورونا على منظومته الأخلاقية أنه بلا أخلاق, وانه لا يلتفت إلى الروح البشرية، ولا يلتزم بأي قيم إنسانية أو دينية. لقد تعرى أمام مصالحه المادية التي تجيز له قتل السوريين الأبرياء ونهب نفطهم وغازهم ومياههم، وقتل مئات الآلاف من الشعب اليمني الفقير المظلوم، وقتل الشعب الليبي وسرقة نفطه وثرواته. وما قام به في العراق من تدمير وتهجير ونهب وتخريب يصعب إحصاؤه أو تصديقه.. ويكفي أن نراجع السنوات العشر وما قام به في الدول العربية والإسلامية لندرك أن هذا الغرب متوحش وقاتل أكثر من الكورونا.
لقد عرّته الكورونا.. وجعلته يقف عاجزاً أمام العالم.. وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي بدا متهالكاً مشتتاً منقسماً، لا يجمعه سوى حلف الناتو الذي يهدد به شعوب الأرض المستضعفة، والتي كان العالم كله مغشوشاً بقدرته، لكن الزيف ظهر وانكشفت أوروبا وأميركا.. وثبت للعالم أن الأنظمة الشمولية التي ينعتونها بالديكتاتورية أثبتت تفوقها وقدرتها على التعاطي مع التهديدات الخارجية والداخلية بسرعة وبطرق ناجعة أكثر من أنظمتهم الجوفاء الفارغة، إلا من نظريات يصدرونها للعالم، ويدعون أنهم ديمقراطيون وأحرار. وعبارة ( العالم الحر) التي يتغنون بها سقطت أمام فايروس لا يرى.
مع ذلك لا يقبل الغرب التراجع أمام تفوق الصين.. ولا يريد الاعتراف بهزيمته، بل ظل يكابر وينافق ويوزع العقوبات على سورية وإيران واليمن وغيرها من الدول التي تصدت لسياسته التي لا تحسب حساب زهق آلاف الأرواح البريئة، ولا يرف لهم جفن. كأن البشر تماثيل وهم آلهة، لكن الفيروس أثبت أنهم تماثيل من (جبصين) تنكسر لمجرد أن تهتز وتسقط وتذوب بمجرد أن يهطل مطر الكوارث.. ما أقوله ليس شماتة بالروح الإنسانية أينما كانت، ولكن نحن لنا أرواح أيضاً وقد تعذبت، وتتعذب الآن، فليتذوقوا بعض عذابنا، وليشعروا ولو لمرة واحدة بالفقد والعجز والحصار.
ماذا يخبئ المستقبل؟ لا أحد يعرف.. وإلى أين نحن نتجه؟ لا أحد يستطيع أن يتنبأ، لكن بالتأكيد هناك مسارات كثيرة ستتشابك ومتغيرات موجعة ستحصل، لأن العالم قبل الكورونا ليس كمثله بعد الكورونا.