ثورة أون لاين – أديب مخزوم:
بادرة جميلة وخطوة مهمة للغاية قامت بها الفنانة التشكيلية رولا نويلاتي، بإقامة معرض لرسومات والدها المدرسية، الفنان الراحل عزت نويلاتي تحت عنوان “من ذاكرة كتبنا المدرسية” والتي أعادتنا إلى ذكرياتنا حين كنا على مقاعد الصف الأول الابتدائي، وصولاً إلى المراحل التعليمية المتقدمة.
دور ريادي
والرسومات التوضيحية المستعادة، حققت حالات الموازنة والمواءمة بين الكلمة المكتوبة واللوحة الموجهة للأطفال، وبرزت فيها ثمرة وخلاصة بحثه في الرسم الذي حقق حالات العفوية، وجاءت رسومات الكتب، في أحيان كثيرة كأنها لوحات فنية انطباعية أو تعبيرية، وأكدت دوره الريادي، ليس في وضع رسومات الكتب المدرسية فقط، وإنما في مساهمته بظهور تيارات الحداثة الانطباعية والتعبيرية والرمزية (لاسيما أننا شاهدنا في المعرض بعض لوحاته الزيتية الموقعة في مطلع الخمسينيات، وهي لوحات تعتبر حديثة في تلك المرحلة، إلى جانب مجموعة لوحاته الصغيرة المنجزة بالرصاص) والتي تحمل قيمة فنية كبيرة، في حساسية خطوطها السريعة والمبسطة .
ورسومات الكتب القديمة المعروضة إلى جانب بعض مقتنياته، مثل عوده (جعلت المعرض يظهر كأنه متحف للفنان الراحل) والرسومات تتبسط مع تقديم الموضوع والنص، وتظهر مساحات لونية، تتضمن الكتابات وتحيط بها، بإيقاعات بصرية رصينة ومختزلة، ومعبرة عن أسلوب خاص في الرسم الموجه للأطفال، فالعناصر المحببة للأطفال من أشجار وثمار وأزهار وطيور وفراشات، وكل ما هو موجود على سطح الكرة الأرضية وفي باطنها، وبحارها، من عناصر حيوانية ونباتية مجسدة في كتبه المدرسية التي تحمل اسمه وتوقيعه .
كتب نادرة
وهذه الكتب باتت نادرة جداً، وهي غنية ومكتنزة بالأشكال، ورغم عفويتها، فهي مرسومة، بروح تصويرية فيها دقة صارمة، بعيدة كل البعد عن الانفعال اللوني، ونرى طموحاً لملامسة الصورة التخيلية في مشاهد الطبيعة بفصولها الأربعة.
هكذا نكون قد تكلمنا عن طموح الفنان الراحل عزت نويلاتي في الحدود التي تعبر عن توجهه التربوي، حيث يظهر جهده وتمايزه في خطوات إظهار جماليات العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الرسم والكتابة، ويمكن أن نقول إن أعماله الموجهة إلى الأطفال قد شهدت خبرة فنية وتقنية مركزة، في استخدام المواد اللونية ومعالجتها، مع الحفاظ على الرموز الفنية والتربوية الحديثة، والاهتمام بمسألة جوهرية، وهي التعامل بدراية، مع أبجدية الكتب المدرسية، ووضع المساحات اللونية الزاهية والشفافة والمبهجة.
وتظهر مرونة الرموز التعبيرية الموجهة للأطفال في الكتابة والرسم معاً، فالطفل هو المستقبل والرسومات المرافقة للكلمة ساهمت إلى حد بعيد في بناء شخصيته، وغرس مشاعر الخير والمحبة والشجاعة والحس الوطني والإنساني ضد نزعات الشر والعدوان والاحتلال والاقتلاع.
وبذلك كان الفنان الرائد الراحل عزت نويلاتي سباقاً في تكوين فسحة الأمل الأكثر نقاءً في عالم الأطفال، بعيداً عن هيمنة النزعات التربوية (الراكدة) والاستعانة الآلية بالمناهج الجامدة، التي تسجل نوعاً من الأسر لمخيلة الأطفال، ومواهبهم الخفية، التي تركت أثراً واضحاً على بعض تيارات فنون القرن العشرين، وهنا أستعيد عبارة بابلو بيكاسو الخالدة، حين زار معرضاً لرسومات الأطفال وقال: «عندما كنت بعمر هؤلاء الأطفال كنت أرسم مثل رفائيل، أما الآن وأنا في التسعين من العمر، أحاول أن أرسم بإحساس هؤلاء الأطفال..»، مشيراً إلى مدى الصدق والعفوية والتلقائية التي تزخر بها رسومات الأطفال في مرحلتهم التعبيرية الأولى .
أبعد من الرسوم التوضيحية
إن التجربة الطويلة التي مارسها الفنان الراحل، والتي ساهم من خلالها بوضع أسس فن الرسم للأطفال، أعطته إمكانيات واضحة وقدرات فريدة، على إيضاح الفكرة بالمختصر المفيد، فقد كان يلخص الفكرة ويكثفها بالوقت نفسه، حتى تصبح قابلة للتحول إلى اللغة الطفولية، ولهذا بقيت عناصره المرسومة قابلة للعيش مدىً زمنياً طويلاً في أذهان وعقول الأجيال المتعاقبة.
ولا شك في أن الكلام إذا كثر في الرسم يخفف من قدرة العين، على اعتماد الصورة كعلاقة أساسية ورئيسة، وخاصة في الرسوم الموجهة للأطفال، فهو وكما أشرنا كان يستخدم اللغة المبسطة القريبة من عوالم وأحلام الصغار، ويستعين بإيقاعات شكلية ولونية شاعرية تشكل للأطفال استراحات لا بد منها في أجواء التعب والملل والرتابة، وكل ذلك جعله ينتمي إلى صياغة فنية وجدانية زاخرة بالحنين والغنائية الإنسانية الطفولية.
ومنذ البداية كان الراحل الكبير يتميز بأسلوب خاص يعمل على اختصار وتكثيف الدلالة اللغوية الطفولية، والرسم التوضيحي المرفق كان يفتح أعين الصغار على شاعرية وشفافية داخل المساحات المرسومة بألوان مضيئة وساطعة. إن شفافية وشاعرية المساحات اللونية، والكلمة المنسابة طلاقة وشاعرية وحيوية، تفتح أعين الصغار والكبارعلى مساهماته الرائدة في كشف أسرار عالم الصغار وتعبيراته، لأن الرسومات تبدو منفذة بحساسية بصرية وروحية، تنقل الكلمة إلى فضاءات رحبة ومفتوحة.
ولم تكن أعماله مجرد رسومات توضيحية فحسب، وإنما تبرز كلوحات فنية متكاملة، لما تحويه، من لمسات عفوية وحالات اختصار ومعالجات تقنية حديثة، ولهذا اقترحت على ابنته رولا أن تقوم بتكبير بعض هذه الرسومات وطباعتها وتأطيرها، كونها تحمل كل مقومات اللوحة الفنية الحديثة، ولقد أبدت رغبتها في تحقيق ذلك، في خطوة المعرض الاستعادي القادم .