في الشعر العربي نصوصٌ كثيرة سحرتنا؛ وخلبت ألبابنا، وما كانت تملكُ من جمالياتِ الشعرِ التي حدَّدها نقدُ الشعر العربي والعالمي الحديثِ؛ بل ومعظم النقد القديم ما يسوِّغُ لنا ذلك، وسأضربُ بعض الأمثلة على ذلك.
يقولُ حاتم الطائي مخاطباً عبدَهُ:
أوقدْ فإنَّ الليلَ ليلٌ قَرُّ والرِّيحُ يا موقِدُ ريحٌ صِرُّ
عسى يرى ناركَ من يَمُرُّ إنْ جَلبتْ ضيْفاً فأنتَ حُرُّ
في البيتين السابقينِ يطلبُ حاتم من عبدهِ أن يضرمَ ناراً تهدي إلى بيتهِ ضيفاً أو تائهاً أو طالبَ حاجةٍ، فما يُطيقُ رجل كريم كحاتم البقاءَ بلا ضيف، لكن ذروة النص تأتي في الشطر الأخير؛ فحاتمُ يُضيفُ كَرمَاً آخر مُختلفاً عما عرفناه؛ إنَّهُ يَعدُ عبدَه بأن يُحرِّرَهُ إن استطاعت نارُهُ أن تجلبَ ضيفاً.
وفي بابِ الكرمِ أيضاً يقولُ أحد الشعراء:
أرى الناسَ خلّان الجوادِ ولا أرى بخيلاً لهُ في العالمينَ خليلُ
معنى البيت سلسٌ وواضح، وهو يعبِّرُ بجلاء عن «انَّ الكريمَ يحققُ ذاته بالبذل، في حين يسعى الناسُ لتحقيقِ ذواتهم بالامتلاك، وهذا ما يجعلُ الكريمَ مركز استقطاب للغير، وموضع إثارةٍ وإعجاب».
والمثالُ الثالث هو بيتٌ شهيرٌ لزهير بن أبي سُلمى:
تراهُ إذا ما جئتَهُ مُتَهَللِّاً كأنكَ تُعطيهِ الذي أنت سائلُهْ
وقد رأى د. عدنان أحمد أنَّ هذا البيت إنما يعبِّرُ «عن إحساسِ الكريمِ بالامتلاء وهو يمارس فعلَ الكرم، من خلالِ الحديث عن سعادتهِ بالعطاء الذي يقوّي شعورَه بذاته».
في الأبيات السابقةِ، وكثيرٍ من أبيات الشعر العربي التي أعجبتنا يتجلّى ما يمكن أن نسميه «جمال المعنى ونبله»، وهو ما ذهبَ إليه عددٌ من نقادنا القُدامى؛ وهؤلاء يرونَ جماليات الشعريّة إنما تكمُنُ في جمال المعنى ونبلهِ وشرفِ المضمون، فابن طبطبا يرى الشعر «رسالةً اجتماعيّة وحضاريّة ووظيفته تشكيل العقول والتأثير في العواطف وتوجيه السلوك الإنساني وجهةً سليمة»، وابن جنيّ يرى «أن المعنى أقوى عند العرب وأكرم وأفخم قدراً في نفوسها وهي تعتني بألفاظها لأنها عنوان معانيها، والألفاظُ خدمٌ للمعاني، والمخدوم أشرف من الخادم»، ويرى عبد القاهر الجرجاني الأمر نفسه.
وقد يجدُ المتابعُ مثل هذه النزعة النفعيّة عند ناقدٍ كبير كحازم القرطاجني الذي يذهبُ إلى أن وظيفة الشعر هي «إنهاض النفوس إلى فعل شيءٍ أو طلبه أو اعتقادِهِ، بما يخيّلُ لها فيه من حسنٍ وقُبحٍ وجلالةٍ وخسّةٍ». ومن جماليات المعنى في الشعر العربي القديم أنّه لا يُقاسُ بمطابقتِهِ للواقع من حيث مسألتي الصدق والكذب يقولُ أبو هلال العسكري: «قيلَ لبعض الفلاسفة فلانٌ يكذبُ في شعرهِ، فقال: يرادُ من الشاعر حسن الكلام، والصدقُ يُرادُ من الأنبياء»، فالشعر إذاً ليس تاريخاً ولا واقعاً موضوعيّاً، إنّه واقعٌ فني قائم بذاته ومستقل بنفسه، بالرغم من الوشائج العميق مع العالم من حولِهِ «ولا تقتصرُ جماليات المعنى على قبول الكذب في الشعر والتلذّذ به، إنما يجدُ المتلقّي- فضلاً على ذلك- أنّ الشعر فنٌ تحويلي، فهو يحوّل الكذب إلى صدقٍ فني، ويحول القباحة إلى جمال، فالافتخار بالذات مكروهٌ في النثر وقبيحٌ ومسترذلٌ، ولكنّهُ مقبولٌ في الشعر وجميل ومطلوب».
وفي هذا السياق يقول ابن رشد: «ليس يُقصدُ من صناعة الشعر أي لذّةٍ اتفقت، لكن إنّما يقصدُ بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل»، أي أن جماليات المعنى إنما تكمُنُ في المحاكاة والتخييل، ووظيفةُ الشعر كما يرى ابن رشد في تخييل الفصائل وتحبيب الناس بها من خلالِ صناعة الشعر، فتحدثُ اللذة الفنيّة الجماليّة بجميل الكلام.
د. ثائر زين الدين