ثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
لا شك أن الانتخابات الرئاسية الأميركية هي حدث أميركي بالغ الأهمية ليس فقط بالنسبة للأميركيين وإنما لجميع دول وشعوب العالم، والأهمية هنا لا تنبع من أهمية الرئيس القادم ومدى حرصه على الأمن والسلام والازدهار والاستقرار في العالم، وإنما نتيجة الخشية المزمنة مما يحمله أو ينويه هذا الرئيس من مخططات شيطانية قد تساهم في جعل العالم أكثر عنفاً وحروبا وإرهابا وافتقادا للأمن والسلام، إذ لا تكاد تخلو ولاية واحدة من الولايات الرئاسية لأي رئيس أميركي من مشكلات وأزمات مفتعلة يدفع العالم بمجموعه أثمانها الباهظة.
ومع أن كل الرؤساء الأميركيين يحملون مثل هذه المواصفات الرديئة، إلا أن معظم شعوب الأرض بما فيها الشعب الأميركي تجمع على أن دونالد ترامب كان الأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، إذ قلما وصلت الوقاحة الأميركية في التعاطي مع الدول والشعوب والحكومات إلى هذا المستوى المخجل، بحيث أصبح مجرد توقع فوزه بولاية ثانية حدثاً يؤرق الكثير من الدول والحكومات والشعوب، لما يمكن أن يرتكبه من حماقات تدخل العالم في فوضى عارمة من الصعب الخروج منها.
وهذا لا يعني أن منافسه في حال فوزه سيكون حملا وديعاً أو حمامة سلام ويحل مشكلات العالم، لأن السياسة الأميركية في معظمها ترتكز على إثارة المشكلات السياسية والأزمات المالية والاقتصادية وإشعال الحروب والنزاعات ونشر الأوبئة والأمراض، واستثمارها بأشكال مختلفة، لجهة التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى أو إبرام صفقات بيع أسلحة أو أدوية أو مواد غذائية..الخ، حيث تشكل الصفقات المشبوهة ركيزة أساسية في تغول الاقتصاد الأميركي وهيمنته على اقتصاديات الدول الأخرى.
وفي زحمة الرفض والتململ العالمي والأميركي من سياسات ترامب المثيرة للجدل والنفور، ثمة من يرغب في فوزه بولاية ثانية، ولكل من هؤلاء غايات تختلف عن غايات الآخرين، ففي الكيان الصهيوني الغاصب مثلاً ثمة حكومة يمينية شديدة التطرف تتأهب بكل ما تملكه من تأثير في داخل الولايات ــ اللوبي الصهيوني ــ لتقديم كل أشكال الدعم والتأييد لحملة ترامب على أمل أن يساعدها في ولايته الثانية باستكمال خروقاتها للقانون الدولي وتعديها على الحقوق العربية والفلسطينية وإنجاز الصفقة المشؤومة المتعلقة بالقضية الفلسطينية “صفقة القرن”، حيث تسابق الحكومة الإسرائيلية الزمن لانجاز ما تستطيعه في هذه الصفقة، لاسيما وأن الولايات المتحدة تدخل في شبه عطالة رسمية في الأشهر التي تسبق موعد الانتخابات، وكل مرشح يعبر عن تأييده للكيان الصهيوني إمعانا في كسب ود اللوبي الصهيوني المتحكم بالانتخابات الأميركية.
على الطرف الآخر ثمة دول عظمى مثل الصين ــ وربما روسيا ــ لا تنظر بعين القلق لإمكانية فوز ترامب لأنها عززت حضورها العالمي أكثر في ظل حماقاته واستعدائه للكثير من الدول والحكومات، وهي تعتقد أن فوز ترامب بولاية ثانية سيضعف الولايات المتحدة أكثر ويشوه سمعتها أكثر ويضعف من قبضتها حول العالم، يقول جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث” الذي أحدث ضجة مؤخراً “إن الضرر الذي يُلحقه ترامب بقوة أميركا والمجتمع الديمقراطي الدولي يفوق كثيراً أي ضرر يلحقه ببكين”.
يضاف إلى ما قاله بولتون ما يشهده العالم حالياً من اضطراب وبلبلة داخل التحالفات الأميركية والعالم الغربي، إذ لم تكن العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الرئيسيين بهذا السوء منذ غزو العراق، وفي منطقة آسيا والمحيط الهادي تتمزق التحالفات مع كوريا الجنوبية والفلبين، وكذلك يتداعى نظام التجارة العالمي جرّاء ما يقوم به ترامب من إجراءات عقابية على الصين وما يثيره من مشكلات مع منظمة التجارة العالمية، بينما تعاني كيانات مثل مجموعة الدول السبع الكبرى أزمة ثقة فيما بينها، كما أن أزمة كورونا التي فشلت إدارة ترامب في معالجتها ومواجهتها داخلياً وراحت توجه اللوم للصين، ستجعل من الولايات المتحدة أكثر هشاشة فيما لو تتالت موجات العدوى من الفايروس القاتل وحصدت أرواح المزيد من الضحايا في أميركا وخارجها.
يعتقد مراقبون أن أربع سنوات جديدة من حكم ترامب سيرتب المزيد من الضغوط على التحالفات الهشة للولايات المتحدة وخاصة مع أوروبا ولا سيما في حلف الناتو، وربما لا تنهار هذه التحالفات تماماً وفوراً، لكنها سوف تزداد خواءً، وقد يعجز ترامب عن تشكيل جبهة اقتصادية موحدة ضد الصين التي أظهرت ذكاء كبيرا في التعاطي مع أوروبا خلال أزمة كورونا، وإذا ما واصل نهجه الأرعن في التعامل مع النزاعات والخلافات التجارية في ضوء ضعف وضع منظمة التجارة العالمية، سيصبح من الصعب عليه كسب المواجهة مع الصين التي تملك أوراق قوة مسحوبة بشكل أوسع من الرصيد الأميركي.
باختصار يمكن القول إن فوز ترامب سيعمق مشكلات الولايات المتحدة أكثر مع العالم، وربما بسبب الاحتجاجات غير lلمسبوقة على الجريمة العنصرية في الولايات المتحدة التي أحدثت شرخا كبيرا بين البيت الأبيض والشعب الأميركي قد تغرق الولايات المتحدة في مشكلاتها الداخلية وهو ما يجعلها أعجز من أن تقود السياسة العالمية أو تتحكم بها على نطاق واسع كما تفعل اليوم.