الثورة أون لاين – غصون سليمان:
تمر ذكرى ميسلون المئوية وفي الذاكرة الوطنية، يخصب الخيال ويعلو الوجد شغاف الروح، حين ترسي لأوجاع الأيام المرة، فيما يزهو النصر الوطني القادم من جذور التاريخ عبقا ونشوة، يوم سطر الدم السوري المقاوم في معركة ميسلون وغيرها من معارك الحق والكرامة في تلك الحقبة إلى يومنا هذا، بياناً في سفر الحقيقة وسطر الحرف ملحمة وقائع من وفاء ،وتغريدة قصيدة بلون الدم السوري الطاهر.
ميسلون تلك البقعة الجغرافية في غربي دمشق والتي واجه فيها وزير الحربية يوسف العظمة وبعض جنوده جحافل المستعمر الفرنسي الغازي القادم من وراء البحار ليغتصب أرضاً ويشرعن احتلالاً بغيضاً ويقهر شعباً ويستعبد كرامة.
ورغم أن المنطق يقول لنا إنه من غير المجدي ربما أن يخرج جيش متواضع التجهيز لقتال جيش غازٍ مدعّم بالعتاد والسلاح ومجهز تجهيزاً كبيراً ويبلغ تعداده الضعف، إلا أن الكبرياء العسكري والشرف الوطني لم يقبل أن ينام على ضيم، وكان لل بدّ من المواجهة ،فاستبسل الوزير يوسف العظمة ورفاق السلاح في الزود عن حمى الوطن وهم يعرفون الفارق الكبير في القدرات العسكرية بين الطرفين ،لكن الإيمان بالوطن وقدسية التراب الطاهر كانا العامل الأسمى للمواجهة وعرقلة تقدم القوات الفرنسية الغازية لبلادنا.
إن التفاصيل كثيرة عن معركة ميسلون وظروفها السياسية والعسكرية والأمنية وما أفرزته من نتائج وتداعيات على الصعيد الوطني ،و النفسي، والتربوي ،و الثقافي ،والاجتماعي، وتناولها الكثير من الباحثين والكتاب والأدبا ء،والمفكرين والشعراء لتبقى برمزيتها وعمقها الوطني.
لقد أراد العظمة بخروجه أن يحفظ لتاريخ سورية العسكري هيبته ووقاره، فقد كان يخشى أن يسجل في كتب التاريخ أن الجيش السوري قعد أو تأخر عن القتال ودخل المحتل عاصمته دون مقاومة.
كما أراد أن يسجّل موقفاً أمام الشعب السوري نفسه بأن جيشه حمل لواء المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي منذ اللحظة الأولى، وإن ذلك سيكون عنواناً ومشعلاً مضيئاً للشعب السوري في مقاومته للمحتل الغاصب، فقد كان يدرك أن من يهن يسهل الهوان عليه، وهوان الجيش قد تكون له عواقب وخيمة على البلاد ومستقبل المقاومة.
صحيح أن القوات الفرنسية دخلت دمشق في اليوم التالي لخسارة الجيش العربي السوري معركة ميسلون، وحرص قائد الجيوش الفرنسية الجنرال هنري غورو على زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي الذي أذاق الفرنسيين ألوان الهزيمة في العديد من المعارك، ووقف أمام ضريحه وقال “ها نحن عدنا يا صلاح الدين”.
لكن ورغم دخول الفرنسيين دمشق، فإن إقامتهم فيها لم تكن هانئة، فقد بدأ السوريون على امتداد جغرافية الوطن حملة مقاومة للاحتلال سطروا فيها أروع ملاحم العز والكرامة، واستمرت لسنين دون هوادة بلغت ذروتها بعد خمس سنين من دخول الفرنسيين، حيث قام المحتل بقصف دمشق بالمدفعية والطائرات الحربية وسقط عدد كبير من الشهداء المدنيين في واحدة من جرائم الحرب في العصر الحديث.
وتحت وطأة المقاومة المستمرة عمد الفرنسيون إلى خطة ماكرة لتطويق دمشق أرادوا من خلالها شراء ذمة أهلها وإقناعهم بأنهم أتوا للنهضة بالبلاد، ومن جهة أخرى ضرب المقاومين، حيث أقام الفرنسيون حسب وثائق التاريخ خطة تطوير عمرانية حول دمشق، استخدموا فيها المعمار الحديث الذي حلّ محل القيم المعمارية الشامية التراثية، ونفذت هذه الخطة العمرانية على شكل حزام دائري يفصل العاصمة عن غوطة دمشق التي كانت منطلقاً لأعمال المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.
وفي هذه الأثناء اشتد الحراك السياسي في سورية، وكانت منطلقاً وقاعدة مهمة من قواعد التحرر من الاحتلال في العالم العربي، وبرزت على الساحة السورية كل ألوان الطيف السياسي من اليسار إلى اليمين، وأصبح العمل ضد الاحتلال الفرنسي عسكريّاً وسياسيّاً.
استمر النضال السوري نحو الاستقلال حوالي 26 عاماً حتى عادت دمشق والمدن السورية بفضل مجاهدي الثورة ورجالات الاستقلال الوطني الذين وهبوا الحياة والكرامة بفضل تضحياتهم وانتصارهم لوطنهم.